ثم انتقلت السورة إلى توبيخهم - ثالثاً - على كفرهم مع علمهم بصدق الرسول وأمانته ، فقال - تعالى - { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } .
أى : أيكون سبب كفرهم أنهم لم يعرفوا رسلوهم محمداً صلى الله عليه وسلم ؟ كلا فإن هذا لا يصلح سبباً ، إذ هم يعرفون حسبه ونسبه ، وأمانته ، وصدقه ، وكانوا يلقبونه بالصادق الأمين قبل بعثته ، وأبو سفيان - قبل أن يدخل فى الإسلام - شهد أمام هرقل ملك الروم ، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان معروفا بصدقه وأمانته قبل البعثة .
ثم قال منكرا على الكافرين من قريش : { أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } أي : أَفَهُمْ{[20601]} لا يعرفون محمدًا وصدقه وأمانته وصيانته التي نشأ بها فيهم ، أفيقدرون{[20602]} على إنكار ذلك والمباهتة فيه ؟ ولهذا قال جعفر بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، للنجاشي ملك الحبشة : أيها الملك ، إن الله بعث إلينا رسولا نعرف نسبه وصدقه وأمانته . وهكذا قال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم وكذلك قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل ، حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته ، وكانوا بعد كفارًا لم يسلموا ، ومع هذا ما أمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك .
أما الاستفهام الثالث : المقدر بعد ( أم ) الثانية في قوله : { أم لم يعرفوا رسولهم } فهو استفهام عن عدم معرفتهم الرسول بناء على أن عدم المعرفة به هو أحد احتمالين في شأنهم إذ لا يخلون عن أحدهما ، فأما كونهم يعرفونه فهو المظنون بهم فكان الأجدر بالاستفهام هو عدم معرفتهم به إذ تفرض كما يفرض الشيء المرجوح لأنه محل الاستغراب المستلزم للتغليط ؛ فإن رميهم الرسول بالكذب وبالسحر والشعر يناسب أن لا يكونوا يعرفونه من قبل ، إذ العارف بالمرء لا يصفه بما هو منه بريء ، ولذلك تفرع على عدم معرفتهم إنكارهم إياه ، أي إنكارهم صفاته الكاملة .
فتعليق ضمير ذاتتِ الرسول ب { منكرون } هو من باب إسناد الحكم إلى الذات والمراد صفاتها مثل { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] . وهذه الصفات هي الصدق والنزاهة عن السحر وأنه ليس في عداد الشعراء .
لقد علموا أن ابننا لا مكذَّبٌ *** لدينا ولا يعزى لقول الأباطل
وقال تعالى فيما أمر به رسوله { فقد لبثتُ فيكم عُمُرا من قبله } ( أي القرآن ) { أفلا تعقلون } [ يونس : 16 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أم لم يعرفوا رسولهم} يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم بوجهه ونسبه.
{فهم له منكرون}، فلا يعرفونه، بل يعرفونه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله: "أمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ "يقول تعالى ذكره: أم لم يعرف هؤلاء المكذّبون محمدا، وأنه من أهل الصدق والأمانة، "
"فَهُمْ له مُنْكِرُونَ "يقول: فينكروا قوله، أو لم يعرفوه بالصدق، ويحتجوا بأنهم لا يعرفونه. يقول جلّ ثناؤه: فكيف يُكَذّبونه وهم يعرفونه فيهم بالصدق والأمانة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي قد عرفوا رسولهم، لكنهم أنكروه، وتركوا اتباعه بما ذكرنا في القرآن من أحد الوجهين عنادا وتكبرا وإشفاقا على رئاستهم لكي تبقى.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
يعني: أنهم عرفوه صغيرا وكبيرا، وعرفوا نسبه، وعرفوا وفاءه بالعهد، وأداءه للأمانات، وصدقه في الأقوال، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، على ما ذكرنا من قبل.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
وهذا على سبيل التوبيخ لهم على الإعراض عنه بعدما عرفوه بالصدق والأمانة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ} محمداً وصحة نسبه، وحلوله في سطة هاشم، وأمانته، وصدقه، وشهامته، وعقله واتسامه بأنه خير فتيان قريش، والخطبة التي خطبها أبو طالب في نكاح خديجة بنت خويلد، كفى برغائها منادياً.
نبه سبحانه بذلك على أنهم عرفوا منه قبل ادعائه الرسالة كونه في نهاية الأمانة والصدق وغاية الفرار من الكذب والأخلاق الذميمة، فكيف كذبوه بعد أن اتفقت كلمتهم على تسميته بالأمين؟
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
المعنى أم لم يعرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم ويعلموا أنه أشرفهم حسبا وأصدقهم حديثا وأعظمهم أمانة وأرجحهم عقلا، فكيف ينسبونه إلى الكذب أو إلى الجنون، أو غير ذلك من النقائص، مع أنه جاءهم بالحق الذي لا يخفى على كل ذي عقل سليم، وأنه عين الصواب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الرجل الكامل من عرف الرجال بالحق، بدأ بما أشار إليه ثم أعقبه بمن يعرف الشيء للألف به، ثم بمن يعرف الحق بالرجال فقال: {أم لم يعرفوا رسولهم} أي الذي أتاهم بهذا القول الذي لا قول مثله، ويعرفوا نسبه وصدقه وأمانته، وما فاتهم به من معالي الأخلاق حتى أنهم لا يجدون فيه -إذا حقت الحقائق- نقيصة يذكرونها، ولا صمة يتخيلونها، كما دلت عليه الأحاديث الصحاح منها حديث أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه الذي في أول البخاري في سؤال هرقل ملك الروم له عن شأنه صلى الله عليه وسلم {فهم} أي فتسبب عن جهلهم به أنهم {له} أي نفسه أو للقول الذي أتى به {منكرون} فيكونوا ممن جهل الحق لجهل حال الآتي به، فلم يحرز شيئاً من رتبتي الناس، لا رتبة العلماء الناقدين، ولا رتبة الجهال المتقلدين، وفي هذا غاية التوبيخ لهم بجهلهم وبعنادهم بأنهم يعرفون أنه أصدق الخلق وأعلاهم في كل معنى جميل ثم يكذبونه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أما الاستفهام الثالث: المقدر بعد (أم) الثانية في قوله: {أم لم يعرفوا رسولهم} فهو استفهام عن عدم معرفتهم الرسول بناء على أن عدم المعرفة به هو أحد احتمالين في شأنهم إذ لا يخلون عن أحدهما، فأما كونهم يعرفونه فهو المظنون بهم فكان الأجدر بالاستفهام هو عدم معرفتهم به إذ تفرض كما يفرض الشيء المرجوح لأنه محل الاستغراب المستلزم للتغليط؛ فإن رميهم الرسول بالكذب وبالسحر والشعر يناسب أن لا يكونوا يعرفونه من قبل، إذ العارف بالمرء لا يصفه بما هو منه بريء، ولذلك تفرع على عدم معرفتهم إنكارهم إياه، أي إنكارهم صفاته الكاملة.
يعني: أنزل عليهم رسول من السماء لا يعرفون سيرته وخلقه ونسبه ومسلكه قبل أن يبعث؟ إنهم يعرفونه جيدا، وقبل بعثته سموه "الصادق الأمين "وارتضوا حكومته بينهم في مسألة الحجر الأسود، وكانوا يأتمنونه على ودائعهم ونفائس أموالهم، ولم يجربوا عليه كذبا أو خيانة أو سقطة من سقطات الجاهلية. وقد شرحت هذه المسألة في قول الله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم.. (128)} [التوبة]: يعني: من جنسكم، ومن نوعكم، ومن قبيلتكم، ليس غريبا عنكم وهو معروف لكم: سلوكه وسيرته وخلقه، وإذا لم تجربوا عليه الكذب مع الخلق، أتتصورون منه أن يكذب على الخالق؟. وهل رسول الله في أول بعثته لما أخبر الناس أنه رسول الله جاء القرآن ليحمل الناس على الإيمان به؟ لا، إنما جاء ليتحدى من لم يؤمن، أما من آمن بداية، بمجرد أن قال محمد: أنا رسول الله قال: صدقت، وحيثية التصديق ما جرب عليه في الماضي، وما علم من صدقه، وأنه لم يكذب أبدا، لذلك كان المقياس عند الصحابة أن يقول رسول الله، فإن قال فالمسألة منتهية لأنه صادق لا يشك أحد منهم في صدقه. لذلك النبي (ص) لما قال أبو بكر في مسألة الإسراء والمعراج: إن كان قال فقد صدق...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فقد عاش بينهم مدة طويلة لم يسجلوا عليه فيها أيّة نقطة ضعفٍ في قولٍ أو فعل، فهل يعقل أن يكون توقفهم عن الإيمان به لأنهم لا يعرفونه {فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} كما ينكر الإنسان أي غريب يأتيه من بلاد بعيدة ليدعوه إلى بعض الأمور دون أن يكون لديه ما يثبت الثقة به، لأنه لا يملك معطيات تكشف حقيقة أمره؟!