ثم بين - سبحانه - مظاهر خسران هذا المذبذب ، وأحواله القبيحة فقال : { يَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ . . . } .
أى : يعبد سوى الله - تعالى - أوثاناً وأصناماً ، إن ترك عبادتها لا تستطيع أن تضره ، وإن عبدها فلن تستطيع أن تنفعه .
و { ذلك } الذى يفعله هذا الشقى من عبادته لما لا يضر ولا ينفع { هُوَ الضلال البعيد } بعداً شاسعاً عن كل صواب ورشاد .
وإلى أين يتجه هذا الذي يعبد الله على حرف ? إلى أين يتجه بعيدا عن الله ? إنه ( يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ) . . يدعو صنما أو وثنا على طريقة الجاهلية الأولى . ويدعو شخصا أو جهة أو مصلحة على طريقة الجاهليات المتناثرة في كل زمان ومكان ، كلما انحرف الناس عن الاتجاه إلى الله وحده ، والسير على صراطه ونهجه . . فما هذا كله ? إنه الضلال عن المتجه الوحيد الذي يجدي فيه الدعاء : ( ذلك هو الضلال البعيد )المغرق في البعد عن الهدى والاهتداء .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضّلاَلُ الْبَعِيدُ } .
يقول تعالى ذكره : وإن أصابت هذا الذي يعبد الله على حرف فتنة ، ارتدّ عن دين الله ، يدعو من دون الله آلهة لا تضرّه إن لم يعبدها في الدنيا ولا تنفعه في الاَخرة إن عبدها . ذلكَ هُوَ الضّلالُ البَعِيدُ يقول : ارتداده ذلك داعيا من دون الله هذه الاَلهة هو الأخذ على غير استقامة والذهاب عن دين الله ذهابا بعيدا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ يكفر بعد إيمانه ذلكَ هُوَ الضّلالُ البَعِيدُ .
وقوله تعالى : { ما لا يضره } يريد الأوثان ، ومعنى { يدعو } يعبد ، ويدعو أيضاً في ملماته ، واختلف الناس في قوله تعالى : { يدعو لمن ضره } فقالت فرقة من الكوفيين اللام مقدمة على موضعها وإنما التقدير «يدعو من لضره » ، ويؤيد هذا التأويل أن عبد الله بن مسعود قرأ «يدعو من ضره » وقال الأخفش { يدعو } بمعنى يقول ، و { من } مبتدأ و { ضره } مبتدأ ، و { أقرب } خبره ، والجملة صلة ، وخبر { من } محذوف والتقدير يقول لمن ضره أقرب منه نفعه إله وشبه هذا ، يقول عنترة : «يدعون عنتر والرماح كأنها {[8316]} » ع وهذا القول فيه نظر فتأمل إفساده للمعنى إذ لم يعتقد الكافر قط أن ضر الأوثان أقرب من نفعها واعتذار أبي علي هنا مموه ، وأيضاً فهو لا يشبه البيت الذي استشهد به{[8317]} ، وقيل المعنى في { يدعو } يسمى ، وهذا كالقول الذي قبله ، إلا أن المحذوف آخراً مفعول تقديره إلهاً{[8318]} ، وقال الزجاج يجوز أن يكون { يدعو } في موضع الحال وفيه هاء محذوفة والتقدير ذلك هوالضلال البعيد يدعو أو يدعوه ، فيوقف على هذا{[8319]} ، قال أبو علي ويحسن أن يكون ذلك بمعنى الذي ، أي الذي هو الضلال البعيد { يدعو } فيكون قوله ذلك موصلاً بقوله { ذلك هو الضلال البعيد } ويكون { يدعو } عاملاً في قوله { ذلك } ع كون { ذلك } بمعنى الذي غير سهل{[8320]} وشبهه المهدوي بقوله تعالى : { وما تلك بيمينك يا موسى }{[8321]} [ طه : 17 ] وقد يظهر في الآية أن يكون قوله { يدعو } متصلاً بما قبله ، ويكون فيه معنى التوبيخ كأنه قال { يدعو } من لا يضر ولا ينفع .
جملة { يدعو من دون الله } الخ حال من ضمير { انقلب } [ الحج : 11 ] .
وقدم الضر على النفع في قوله { ما لا يضره } إيماء إلى أنه تملص من الإسلام تجنباً للضر لتوهمه أن ما لحقه من الضر بسبب الإسلام وبسبب غضب الأصنام عليه ، فعاد إلى عبادة الأصنام حاسباً أنها لا تضره . وفي هذا الإيماء تهكم به يظهر بتعقيبه بقوله تعالى : { وما لا ينفعه } أي فهو مخطىء في دعائه الأصنام لتزيل عنه الضر فينتفع بفعلها . والمعنى : أنها لا تفعل ما يجلب ضرّاً ولا ما يجلب نفعاً .
والإشارة في قوله { ذلك هو الضلال } إلى الدعاء المستفاد من { يدعو } .
والقول في اسم الإشارة وضمير الفصل والقصر مثل ما تقدّم في قوله { ذلك هو الخسران المبين } [ الحج : 11 ] .
والبعيد : المتجاوز الحد المعروف في مدى الضلال ، أي هو الضلال الذي لا يماثله ضلال لأنه يعبد ما لا غناء له .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عن هذا المرتد عن الإسلام. فقال سبحانه: {يدعو} يعني: يعبد {من دون الله} يعني: الصنم {ما لا يضره} في الدنيا إن لم يعبده، {وما لا ينفعه} في الآخرة إن عبده.
{ذلك هو الضلال البعيد}، يعني: الطويل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإن أصابت هذا الذي يعبد الله على حرف فتنة، ارتدّ عن دين الله، يدعو من دون الله آلهة لا تضرّه إن لم يعبدها في الدنيا ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها. "ذلكَ هُوَ الضّلالُ البَعِيدُ "يقول: ارتداده ذلك داعيا من دون الله هذه الآلهة هو الأخذ على غير استقامة والذهاب عن دين الله ذهابا بعيدا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" ذلك هو الضلال البعيد "يعني عبادة مالا يضر ولا ينفع من العدول عن الصواب، والانحراف عن الطريقة المستقيمة إلى البعيد عن الاستقامة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الضلال البعيد} من ضلال من أبعد في التيه ضالاً، فطالت وبعدت مسافة ضلالته.
فإن قلت: الضرر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين، وهذا تناقض قلت: إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جماداً لا يملك ضراً ولا نفعاً، وهو يعتقد فيه بجهله وضلاله أنه يستنفع به حين يستشفع به، ثم قال: يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ، حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم بين هذا الخسران الذي رده إلى ما كان فيه قبل الإيمان الحرفي بقوله: {يدعو} أي يعبد حقيقة أومجازاً مع التجدد والاستمرار بالاعتماد على غير الله ومنابذة {وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]. ولما كان كل ما سوى الله دونه، نبه على ذلك بقوله: {من دون الله} أي عن أدنى رتبة من رتب المستجمع لصفات الكمال.
ولما كان المقتضى للعبادة إنما هو الفعل بالاختيار، وأما الفعل الذي يقتضيه الطبع والقسر عليه فلا عبرة به في ذلك، فإنه لا قدرة على الانفكاك عنه فلا حمد لفاعله، نبه على ذلك بقوله: {ما لا يضره} أي بوجه من الوجوه حتى ولا بقطع النفع إن كان يتصور منه.
ولما قدم الضر لأنه من الأعذار المقبولة في ارتكاب الخطأ، أتبعه النفع قطعاً لكل مقال فقال: {وما لا ينفعه} بوجه من الوجوه ولا بترك الضر إن وجد منه، ولو أسقطت "ما "من الثاني لظن أن الذم يشترط فيه انتفاء الضر والنفع معاً حتى أن من ادعى ما انتفى عنه أحدهما لم يذم {ذلك} أي الفعل الدال على أعظم السفه وهو دعاء شيء انتفى عنه القدرة على النفع، أو شيء انتفى عنه القدرة على الضر {هو} أي وحده {الضلال البعيد} عن الحق والرشاد الذي أوصل إلى فياف مجاهل لا يتأتى الرجوع منها، وذلك لأن الأول لو ترك عبادته ما قدر على منع إحسانه، والثاني لو تقاداه ما وصل إلى نفعه ولا بترك ضره، فعبادتهما عبث، لأنه استوى فعلها وتركها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإلى أين يتجه هذا الذي يعبد الله على حرف؟ إلى أين يتجه بعيدا عن الله؟ إنه (يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه).. يدعو صنما أو وثنا على طريقة الجاهلية الأولى. ويدعو شخصا أو جهة أو مصلحة على طريقة الجاهليات المتناثرة في كل زمان ومكان، كلما انحرف الناس عن الاتجاه إلى الله وحده، والسير على صراطه ونهجه.. فما هذا كله؟ إنه الضلال عن المتجه الوحيد الذي يجدي فيه الدعاء: (ذلك هو الضلال البعيد) المغرق في البعد عن الهدى والاهتداء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقدم الضر على النفع في قوله {ما لا يضره} إيماء إلى أنه تملص من الإسلام تجنباً للضر لتوهمه أن ما لحقه من الضر بسبب الإسلام وبسبب غضب الأصنام عليه، فعاد إلى عبادة الأصنام حاسباً أنها لا تضره. وفي هذا الإيماء تهكم به يظهر بتعقيبه بقوله تعالى: {وما لا ينفعه} أي فهو مخطىء في دعائه الأصنام لتزيل عنه الضر فينتفع بفعلها. والمعنى: أنها لا تفعل ما يجلب ضرّاً ولا ما يجلب نفعاً.
والإشارة في قوله {ذلك هو الضلال} إلى الدعاء المستفاد من {يدعو}.
والقول في اسم الإشارة وضمير الفصل والقصر مثل ما تقدّم في قوله {ذلك هو الخسران المبين} [الحج: 11].
والبعيد: المتجاوز الحد المعروف في مدى الضلال، أي هو الضلال الذي لا يماثله ضلال لأنه يعبد ما لا غناء له.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
... {ذلك هو الضلال البعيد}، أي ذلك الذي كان منكم، وهو أنكم تريدون الأقدار على ما تحبون، وتسير على ما تشتهون هو الضلال البعيد، أي الذي تبتدئون السير فيه حاسبين أنه هداية، وكلما أوغلتم بعدتم عنها بعدا طويلا، وبذلك تمنعون في الضلال والتيه إمعانا.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُه} لأنه يفتقد الشعور والإرادة، ولا يملك قوّة مستقلة، ولا يستطيع أن يحقق للآخرين أيّ نفع، أو يدفع عنهم أيّ ضرر، لأنه، سواء أكان مخلوقاً حيّاً أم جامداً، فهو لا يملك في ذاته إلا ما ملَّكه الله إيّاه.. و {ذلِكَ هُوَ الضلال الْبَعِيدُ} لأن لجوءه إلى هذه المخلوقات لا يؤمّن أي مصدر للقوّة، أو أيّ مورد للنفع أو الربح يمكن أن يبقى للإنسان منه شيءٌ في الدنيا والآخرة، ما يجعل اتجاهه ذاك يزجّه في الضياع البعيد الذي لا يستطيع أن يرجع منه إلى أيّ هدًى.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(يدعوا من دون الله ما لا يضرّه وما لا ينفعه) أي إذا كان هذا الإنسان يسعى إلى تحقيق مصالحه الماديّة والابتعاد عن الخسائر، ويرى صحّة الدين في إقبال الدنيا عليه، وبطلانه في إدبارها عنه، فلماذا يتوجّه إلى أصنام لا يؤمّل منها خير، ولا يخاف منها ضرر، فهي أشياء لا فائدة فيها، ولا أثر لها في مصير البشر؟!