قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون } قال ابن عباس : غير مقطوع . وقال مقاتل : غير منقوص ، ومنه ( المنون ) لأنه ينقص منة الإنسان وقوته ، وقيل : غير ممنون عليهم به . وقال مجاهد : غير محسوب . وقال السدي : نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى ، إذا عجزوا عن الطاعة يكتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون فيه .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسين بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبانا معمر عن عاصم بن أبي النجود عن خيثمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ، ثم مرض قيل للملك الموكل به : اكتب له مثل عمله إذا كان طليقاً حتى أطلقه أو أكفته إلى قوله عز وجل
وقوله - تعالى - : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } بيان لحسن عاقبة المؤمنين ، بعد بيان سوء عاقبة الكافرين .
أى : إن الذين آمنوا إيمانا حقا وعملوا الأعمال الصالحات ، لهم أجر عظيم غير { مَمْنُونٍ } أى غير مقطوع عنهم ، من مننت الحبل إذا قطعته ، أو غير منقوص عما وعدهم الله به ، أو غير ممنون به عليهم ، بل يعطون ما يعطون من خيرات جزاء أعمالهم الصالحة فى الدنيا ، فضلا من الله - تعالى - وكرما .
ثم قال بعد ذلك : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } قال مجاهد وغيره : لا مقطوع ولا مجبوب{[25629]} ، كقوله : { مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا } [ الكهف : 3 ] ، وكقوله تعالى { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] .
وقال السدي : غير ممنون عليهم . وقد رد عليه بعض الأئمة هذا التفسير ، فإن المنة لله على أهل الجنة ؛ قال الله تعالى : { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ } [ الحجرات : 17 ] ، وقال أهل الجنة : { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } [ الطور : 27 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * قُلْ أَإِنّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبّ الْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : إن الذين صدّقوا الله ورسوله ، وعملوا بما أمرهم الله به ورسوله ، وانتهوا عما نهياهم عنه ، وذلك هو الصالحات من الأعمال لَهُمْ أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يقول : لمن فعل ذلك أجر غير منقوص عما وعدهم أن يأجرهم عليه .
وقد اختلف في تأويل ذلك أهل التأويل ، وقد بيّناه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقد :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ لَهُمْ أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قال بعضهم : غير منقوص . وقال بعضهم : غير ممنون عليهم .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يقول : غير منقوص .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، قوله : لَهُمْ أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قال : محسوب .
ذكر عز وجل حالة الذين آمنوا معادلاً بذلك حالة الكافرين المذكورين ليبين الفرق . وقوله : { غير ممنون } قال ابن عباس معناه : غير منقوص . وقالت فرقة معناه : غير مقطوع ، يقال مننت الحبل : إذا قطعته{[10041]} . وقال مجاهد معناه : غير محسوب ، لأن كل محسوب محصور ، فهو معد لأن يمن به ، فيظهر في الآية أنه وصفه بعدم المن والأذى من حيث هو من جهة الله تعالى ، فهو شريف لا من فيه ، وأعطيات البشر هي التي يدخلها المن . وقال السدي : نزلت هذه الآية من المرضى والزمنى{[10042]} ، إذا عجزوا عن إكمال الطاعات كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون ، ثم أمر تعالى نبيه أن يوقفهم موبخاً على كفرهم بخالق الأرض والسماوات ومخترعها ، ووصف صورة خلقها ومدته ، والحكمة في خلقه هذه المخلوقات في مدة ممتدة مع قدرة الله على إيجادها في حين واحد . وهي إظهار القدرة في ذلك حسب شرف الإيجاد أولاً أولاً . قال قوم : وليعلّم عباده التأني في الأمور والمهل .
استئناف بياني نشأ عن الوعيد الذي تُوُعّد به المشركون بعد أن أُمروا بالاستقامة إلى الله واستغفارِه عما فرط منهم ، كأنَّ سائلاً يقول : فإن اتعظوا وارتدعوا فماذا يكون جزاؤهم ، فأفيد ذلك وهو أنهم حينئذٍ يكونون من زمرة { الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون } ، وفي هذا تنويه بشأن المؤمنين .
والأجر : الجزاء النافع ، عن العمل الصالح ، أو هو ما يُعطُوْنه من نعيم الجنة .
والممنون : مفعول من المَنّ ، وهو ذِكر النعمة للمنعَم عليه بها ، والتقدير غير ممنون به عليهم ، وذلك كناية عن كونهم أُعطُوه شكراً لهم على ما أسلفوه من عمل صالح فإن الله غفور شكور ، يعني : أن الإِنعام عليهم في الجنة ترافقه الكرامة والثناء فلا يُحسون بخجل العطاء ، وهو من قبيل قوله : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] ، فأجرهم بمنزلة الشيء المملوك لهم الذي لم يعطه إياهم أحد وذلك تفضل من الله ، وقريب منه قول لبيد :