وقوله - سبحانه - { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ . . . } بيان لما قاله زوجها بعد أن انكشفت له الحقيقة انكشافا تاما .
أى : فلما رأى العزيز قميص يوسف قد قطع من الخلف . وجه كلامه إلى زوجته معاتبا إياها بقوله : إن محاولتك اتهام ليوسف بما هو برئ منه ، هو نوع من " كيدكن " ومكركهن وحيلكن { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } في بابه ، لأن كثيرا من الرجال لا يفطنون إلى مراميه .
وهكذا واجه ذلك الرجل خيانة زوجه له بهذا الأسلوب الناعم الهادئ ، بأن نسب كيدها ومكرهها لا إليها وحدها بل الجنس كله { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ } .
( فلما رأى قميصه قد من دبر ) . .
تبين له حسب الشهادة المبنية على منطق الواقع أنها هي التي راودت ، وهي التي دبرت الاتهام وهنا تبدو لنا صورة من " الطبقة الراقية " في الجاهلية قبل الآف السنين وكأنها هي هي اليوم شاخصة . رخاوة في مواجهة الفضائح الجنسية ؛ وميل إلى كتمانها عن المجتمع ، وهذا هو المهم كله :
( قال : إنه من كيدكن . إن كيدكن عظيم . يوسف أعرض عن هذا ، واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ) !
هكذا . إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم . . فهي اللباقة في مواجهة الحادث الذي يثير الدم في العروق . والتلطف في مجابهة السيدة بنسبة الأمر إلى الجنس كله ، فيما يشبه الثناء . فإنه لا يسوء المرأة أن يقال لها : إن كيدكن عظيم ! فهو دلالة في حسها على أنها أنثى كاملة مستوفية لمقدرة الأنثى على الكيد العظيم !
يخبر تعالى عن حالهما حين خرجا يستبقان إلى الباب ، يوسف هارب ، والمرأة تطلبه ليرجع إلى البيت ، فلحقته في أثناء ذلك ، فأمسكت بقميصه [ من ورائه ]{[15136]} فَقَدَّته{[15137]} قدًا فظيعا ، يقال : إنه سقط عنه ، واستمر يوسف هاربا ذاهبا ، وهي في إثره ، فألفيا سيدها - وهو زوجها - عند الباب ، فعند ذلك خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها ، وقالت لزوجها متنصلة وقاذفة يوسف بدائها : { مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا } أي :{[15138]} فاحشة ، { إِلا أَنْ يُسْجَنَ } أي : يحبس ، { أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : يضرب ضربا شديدًا موجعا . فعند ذلك انتصر يوسف ، عليه السلام ، بالحق ، وتبرأ مما رمته به من الخيانة ، وقال بارا صادقا{[15139]} { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي } وذكر أنها اتبعته تجذبه إليها حتى قدت قميصه ، { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ } أي : من قدامه ، { فَصَدَقَتْ } أي : في قولها إنه أرادها على نفسها ، لأنه يكون لما دعاها وأبت عليه دفعته في صدره ، فقدت قميصه ، فيصح ما قالت : { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ } وذلك يكون كما وقع لما هرب منها ، وتطلبته أمسكت بقميصه من ورائه لتردّه إليها ، فقدت قميصه من ورائه .
وقد اختلفوا في هذا الشاهد : هل هو صغير أو كبير ، على قولين لعلماء السلف ، فقال عبد الرزاق :
أخبرنا إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا } قال : ذو لحية .
وقال الثوري ، عن جابر ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ، عن ابن عباس : كان من خاصة الملك . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، ومحمد بن إسحاق : إنه كان رجلا .
وقال زيد بن أسلم ، والسدي : كان ابن عمها .
وقال ابن عباس : كان من خاصة الملك .
وقد ذكر ابن إسحاق أن زليخا كانت بنت أخت الملك الريان بن الوليد .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا } قال : كان صبيا في المهد . وكذا رُوي عن أبي هريرة ، وهلال بن يَسَاف ، والحسن ، وسعيد بن جبير والضحاك بن مُزاحم : أنه كان صبيا في الدار . واختاره ابن جرير .
وقد ورد فيه حديث مرفوع فقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد - هو ابن سلمة - أخبرني عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : " تكلم أربعة وهم صغار " ، فذكر فيهم شاهد يوسف{[15140]} .
ورواه غيره عن حماد بن سلمة ، عن عطاء ، عن سعيد ، عن ابن عباس ؛ أنه قال : تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جُرَيْج ، وعيسى ابن مريم{[15141]} .
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : كان من أمر الله ، ولم يكن إنسيا . وهذا قول غريب .
وقوله : { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ } أي : فلما تحقق زوجها صدقَ يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به ، { قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ } أي : إن هذا البهت واللَّطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن ، { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }
ثم قال آمرا ليوسف ، عليه السلام ، بكتمان ما وقع : يا { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } أي : اضرب عن هذا [ الأمر ]{[15142]} صفحا ، فلا تذكره لأحد ، { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ } يقول لامرأته وقد كان لين العريكة سهلا أو أنه عذرها ؛ لأنها رأت ما لا صبر لها عنه ، فقال لها : { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ } أي : الذي{[15143]} وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب ، ثم قَذْفه بما هو بريء منه ، استغفري من هذا الذي وقع منك ، { إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصّادِقِينَ * فَلَمّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنّهُ مِن كَيْدِكُنّ إِنّ كَيْدَكُنّ عَظِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : قال يوسف ، لما قذفته امرأة العزيز بما قذفته من إرداته الفاحشة منها مكذّبا لها فيما قذفته به ودفعا لما نُسِب إليه : ما أنا راودتها عن نفسها ، بل هي راودتني عن نفسي . وقد قيل : إن يوسف لم يرد ذكر ذلك لو لم تقذفه عند سيدها بما قذفته به . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا شيبان ، عن أبي إسحاق ، عن نوف الشامي ، قال : ما كان يوسف يريد أن يذكره حتى { قالَتْ ما جَزَاءُ مَنْ أرَادَ بأهْلِكَ سُوءا . . . } ، الآية ، قال : فغضب ، فقال : هي راودتني عن نفسي .
وأما قوله : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، فإن أهل العلم اختلفوا في صفة الشاهد ، فقال بعضهم : كان صبيّا في المهد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو العلاء بن عبد الجبار ، عن حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : تكلم أربعة في المهد ، وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جُريج ، وعيسى ابن مريم عليه السلام .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي بكر الهُذَليّ ، عن شَهرْ بن حَوْشب ، عن أبي هريرة ، قال : عيسى ، وصاحب يوسف ، وصاحب جُريج . يعني : تكلموا في المهد .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا زائدة ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : صبيّ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : كان في المهد صبيّا .
حدثني محمد بن عبيد المحاربيّ ، قال : حدثنا أيوب بن جابر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : صبيّ .
حدثني يحيى بن طلحة البربوعي ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، بمثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان صبيّا في مهده .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إدريس ، عن حصين ، عن هلال بن يساف : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : صبيّ في المهد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أبي مزوق ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : صبيّ أنطقه الله . ويقال : ذو رأي برأيه .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : أخبرنا عفان ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرني عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «تَكَلّمَ أرْبَعَةٌ وَهُمْ صِغَارٌ » ، فذكر فِيهمْ شاهِدَ يُوسُفَ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج . قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، يزعمون أنه كان صبيّا في الدار .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا عمي . قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : كان صبياّ في المهد .
وقال آخرون : كان رجلاً ذا لحية .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان ذا لحية .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس : وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها قال : كان من خاصة الملك .
وبه قال : حدثنا أبي ، عن عمران بن حدير ، سمع عكرمة يقول : وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها قال : ما كان يصبيّ ، ولكن رجلاً حكيما .
حدثنا سَوّار بن عبد الله ، قال : حدثنا عبد الملك بن الصباح ، قال : حدثنا عمران بن حدير ، عن عكرمة ، وذكره عنده : وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها فقالوا : كان صبيّا ، فقال : إنه ليس بصبيّ ولكنه رجل حكيم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها قال : كان رجلاً .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : رجل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : رجل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : رجل .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة عن ابن عباس : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : ذو لحية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ابن عمها كان الشاهد من أهلها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة عن ابن عباس : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : ذو لحية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان ذا لحية .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن جابر ، عن ابن أبي مليكة : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : كان من خاصة الملك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : رجل حكيم كان من أهلها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : رجل حكيم من أهلها .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : كان رجلاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن بعض أصحابه ، عن الحسن ، في قوله : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال رجل له رأي ، أشار برأيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : يقال : إنما كان الشاهد مشيرا رجلاً من أهل إطفير ، وكان يستعين برأيه . إلا أنه قال : أشهد إن كان قميصه قدّ من قبل لقد صدقت ، وهو من الكاذبين .
وقيل : معنى قوله : { وَشَهِدَ شاهِدٌ } : حكم حاكم .
حدثت بذلك عن الفراء ، عن معلى بن هلال ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد .
وقال آخرون : إنما عنى بالشاهد : القميص المقدود .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : قميصه مشقوق من دبر ، فتلك الشهادة .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } : قميصه مشقوق من دُبُر ، فتلك الشهادة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن ليث ، عن مجاهد : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } : لم يكن من الإنس .
قال : حدثنا حفص ، عن ليث ، عن مجاهد : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، قال : كان من أمر الله ، ولم يكن إنسيا .
والصواب من القول في ذلك ، قول من قال : كان صبيّا في المهد للخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر من تكلم في المهد ، فذكر أن أحدهم صاحب يوسف . فأما ما قاله مجاهد من أنه القميص المقدود ، فما لا معنى له ؛ لأن الله تعالى ذكره أخبر عن الشاهد الذي شهد بذلك أنه من أهل المرأة ، فقال : { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أهْلها } ، ولا يقال للقميص هو من أهل الرجل ولا المرأة .
وقوله : { إنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِنْ قُبُلً فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكاذِبِينَ } ، لأن المطلوب إذا كان هاربا فإنما يؤتى من قبل دبره ، فكان معلوما أن الشقّ لو كان من قُبُل لم يكن هاربا مطلوبا ، ولكن كان يكون طالبا مدفوعا ، وكان ذلك شهادة على كذبه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال : أشهد إن كان قميصه قُدّ من قُبل لقد صدقت وهو من الكاذبين ، وذلك أن الرجل إنما يريد المرأة مقبلاً . { وإنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِنْ دُبُرٍ فكذبت وَهُوَ مِنَ الصّادِقِينَ } ، وذلك أن الرجل لا يأتي المرأة من دبر . وقال : إنه لا ينبغي أن يكون في الحقّ إلا ذاك . فلما رأى إطفير قميصه قُدّ من دبر عرف أنه من كيدها ، فقال : { إنّهُ مِنْ كَيْدِكُنّ إنّ كَيْدَكُنّ عَظِيمٌ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال : يعني الشاهد من أهلها : القميص يقضي بينهما : { إنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِنْ قُبُلً فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكاذِبِينَ وإنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصّادِقِينَ فَلَمّا رأى قَمِيصَهُ قُدّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إنّهُ مِنْ كَيْدَكُنّ إنّ كَيْدَكُنّ عَظِيمٌ } .
وإنما حذفت «أن » التي تتلقى بها الشهادة ، لأنه ذهب بالشهادة إلى معنى القول ، كأنه قال : وقال قائل من أهلها : إن كان قميصه ، كما قيل : { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أوْلادِكُمْ للذّكَرِ مِثلُ حَظّ الأُنْثَيَيْنِ } ، لأنه ذهب بالوصية إلى القول .
وقوله : { فَلَمّا رأى قَمِيصَهُ قُدّ مِنْ دُبُرٍ } ، خبر عن زوج المرأة ، وهو القائل لها : إن هذا الفعل { من كيدكنّ } : أي صنيعكنّ ، يعني : من صنيع النساء ، { إن كيدكنّ عظيم } . وقيل : إنه خبر عن الشاهد أنه القائل ذلك .
وقرأت فرقة : «فلما رأى قميصه عط من دبر » . والضمير في { رأى } هو للعزيز ، وهو القائل : { إنه من كيدكن } ، قاله الطبري وقيل : بل «الشاهد » قال ذلك ، والضمير في { إنه } يريد مقالها المتقدم في الشكوى ب «يوسف » .
ونزع بهذه الآية من يرى الحكم بالأمارة ، من العلماء ، فإنها معتمدهم{[4]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلما رءا} الزوج {قميصه قد من دبر}، يقول: مزق من ورائه، {قال} لها:
{إنه من كيدكن}، يقول: تمزيق القميص من فعلكن، يعني: امرأته، ثم قال: {إن كيدكن}، يعنى: فعلكن،
{عظيم}، لأن المرأة لا تزال بالرجل حتى يقع في الخطيئة العظيمة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله: {فَلَمّا رأى قَمِيصَهُ قُدّ مِنْ دُبُرٍ}، خبر عن زوج المرأة، وهو القائل لها: إن هذا الفعل {من كيدكنّ}: أي صنيعكنّ، يعني: من صنيع النساء، {إن كيدكنّ عظيم}. وقيل: إنه خبر عن الشاهد أنه القائل ذلك.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
الثاني: أنه أراد السوء الذي دعته إليه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَلَماَّ رَّءَا} يعني [الزوج] وعلم براءة يوسف وصدقه وكذبها {قَالَ إِنَّهُ} إن قولك {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا} أو إنّ الأمر وهو طمعها في يوسف {مِن كَيْدِكُنَّ} الخطاب لها ولأمتها. وإنما استعظم كيد النساء لأنه وإن كان في الرجال، إلا أنّ النساء ألطف كيداً وأنفذ حيلة. ولهنّ في ذلك نيقة ورفق، وبذلك يغلبن الرجال... والقصريات من بينهنّ معهنّ ما ليس مع غيرهنّ من البوائق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان المعنى: فنظر، بنى عليه قوله: {فلما رءا} أي سيدها {قميصه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {قدَّ من دبر قال} لها وقد قطع بصدقه وكذبها، مؤكداً لأجل إنكارها {إنه} أي هذا القذف له {من كيدكن} معشر النساء؛ والكيد: طلب الإنسان بما يكرهه {إن كيدكن عظيم} والعظيم: ما ينقص مقدار غيره عنه حساً أو معنى، فاستعظمه لأنه أدق من مكر الرجل وألطف وأخفى...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} كأنه لم يكن رأى ذلك بعدُ أو لم يتدبَّرْه فلما تنبه له وعلم حقيقةَ الحال {قَالَ إِنَّهُ} أي الأمرَ الذي وقع فيه التشاجرُ وهو عبارةٌ عن إرادة السوءِ التي أُسندت إلى يوسف وتدبيرِ عقوبته بقولها:"ما جزاءُ من أراد بأهلك سوءاً..." إلى آخره لكن لا من حيث صدورُ تلك الإرادةِ والإسنادُ عنها بل مع قطع النظرِ عن ذلك لئلا يخلُوَ قوله تعالى {مِن كَيْدِكُنَّ}، أي من جنس حيلتِكن ومكرِكن أيتها النساءُ لا من غيركن... وتعميمُ الخطاب للتنبيه على أن ذلك خُلُق لهن عريق...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن} أي أن هذا العمل ومحاولة التنصل منه بالاتهام من كيدكن المعهود منكن معشر النساء، فهو لم يخص الكيد بزوجه فيقال إنه أمر شاذ منها يجب التروي في تحقيقه بأكثر مما شهد به أحد أهلها، وهو لا يتهم في التحامل عليها وظلمها، بل هو سنة عامة فيهن في التفصي من خطيئاتهن، فقد أثبت خطيئتها مستدلا عليها بالسنة العامة لهن في أمثالها {إن كيدكن عظيم} لا قبل للرجال به ولا يفطنون لحبلكن في دقائقه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تبين له حسب الشهادة المبنية على منطق الواقع أنها هي التي راودت، وهي التي دبرت الاتهام وهنا تبدو لنا صورة من "الطبقة الراقية "في الجاهلية قبل آلاف السنين وكأنها هي هي اليوم شاخصة: رخاوة في مواجهة الفضائح الجنسية، وميل إلى كتمانها عن المجتمع، وهذا هو المهم كله: (قال: إنه من كيدكن. إن كيدكن عظيم. يوسف أعرض عن هذا، واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين)! هكذا. إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم. فهي اللباقة في مواجهة الحادث الذي يثير الدم في العروق. والتلطف في مجابهة السيدة بنسبة الأمر إلى الجنس كله، فيما يشبه الثناء. فإنه لا يسوء المرأة أن يقال لها: إن كيدكن عظيم! فهو دلالة في حسها على أنها أنثى كاملة مستوفية لمقدرة الأنثى على الكيد العظيم!...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
واقتنع العزيز بهذه الملاحظة لأنها قريبة لمنطق الأشياء، {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} صدّق يوسف بأنها راودته عن نفسه، والتفت إليها في موقف استنكار وتأنيب، {قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ} لما كان يحمله في نفسه من انطباع عن كيد النساء اللواتي يُقمن ضعفهن الأنثوي في مخاطبة شهوة الرجل وغريزته، واستعمال ذلك الضعف كسلاحٍ ضدّه، في ما تذرفه من دموع في حالة الشكوى، وفي ما تقدّمه من أساليب أخرى في محاولة لإقناع الآخرين بظلامتها. وفي هذا الاتجاه سارت زوجة العزيز في موقفها من يوسف، مستغلة وجوده عندها في البيت، وحاجته إليها في ظروف العبودية التي فُرضت عليه، ويقظة غرائز المراهقة في دمه وأعصابه، وعندما امتنع عليها لاحقته في محاولة منها للضغط عليه، ولما فاجأها زوجها بالموقف الشائن بادرت إلى اتهام يوسف بالاعتداء عليها، اعتقاداً منها بأن طبيعة الأمور في مثل هذه الحالات تفرض على زوجها تصديقها وتكذيب يوسف، {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} لأنّ المرأة تملك من الوسائل الخفيّة، ما تستطيع به السيطرة على الموقف من أوسع السبل...