ثم ختم - سبحانه - تلك المحاجة بقوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين } .
أى فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات والحجج الواضحات التى أخبرناك بها وقصصناها عليك ، فأنذرهم بسوء العاقبة ، وأخبرهم أن الله - تعالى - عليم بهم ، وبما يقولونه ويفعلونه من فساد في الأرض . وسيعاقبهم على ذلك العقاب الأليم .
فقوله { فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين } قائم مقام جواب الشرط ، أى فإن تولوا فأخبرهم بأنهم مفسدون وأن لهم سوء العقبى لأن الله عليم بإفسادهم ولن يتركهم بدون عقوبة .
وهذه الجملة الكريمة تتضمن فى ذاتها تهديدا شديداً لهؤلاء المجادلين بالباطل فى شأن عيسى - عليه السلام - ولكل من أعرض عن الحق الذى جاء به النبى صلى الله عليه وسلم لأن الله - تعالى - ليس غافلا عن إفساد المفسدين ، وإنما يأخذهم أخذ عيز مقتدر .
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد بينت بأسلوب معجز حكيم جانبا من قصة آل عمران فحدثتنا عما كان من امرأته أم مريم ، وما قالته عندما حملت بها ، وما قالته بعد ولادتها ، وما أكرم الله به مريم من رعايتها بالتربية الحسنة وبالرزق الحسن ، ثم ما كان من شأن زكريا وتضرعه إلى الله أن يهبه الذرية الصالحة واستجابة الله له وتبشيره بولادة يحيى ، ثم ما كان من شأن مريم وتبشيرها باصطفاء الله لها وأمرها بالمداومة على طاعته ، ثم تبشيرها بعيسى وتعجبها لذلك والرد عليها بما يزيل هذا العجب ، ثم ما كان من شأن عيسى - عليه السلام - وما وصفه به من صفات كريمة ، وما منحه من معجزات باهرة تشهد بصدقه فى رسالته ، مما جعل الحواريين يؤمنون به ، أما الأكثرون من بنى إسرائيل فقد كفروا به ودبروا له المكايد فأنجاه الله من مكرهم ورفعه إليه وطهره منهم .
ثم بين القرآن أن عيسى عبد الله ورسوله ، وأن هذا هو الحق ، وقد تحدى الرسول صلى الله عليه وسلم كل من نازعه فى ذلك بالمباهلة ولكن المجادلين نكصوا على أعقابهم ، فثبت صدق النبى صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه .
وبذلك يكون القرآن قد بين الحق فى شأن عيسى - عليه السلام - بيانا يهدى القلوب ويقنع العقول ويحمل النفوس على التدبر والاعتبار ، وإخلاص العبادة لله رب العالمين .
( فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين ) .
إنما الجديد هو وصف الذين يتولون عن الحق بأنهم مفسدون ، وتهديدهم بأن الله عليم بالمفسدين . .
والفساد الذي يتولاه المعرضون عن حقيقة التوحيد فساد عظيم . وما ينشأ في الأرض الفساد - في الواقع - إلا من الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة . لا اعتراف اللسان . فاعتراف اللسان لا قيمة له . ولا اعتراف القلب السلبي . فهذا الاعتراف لا ينشىء آثاره الواقعية في حياة الناس . . إنما هي الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة بكل آثارها التي تلازمها في واقع الحياة البشرية . . وأول ما يلازم حقيقة التوحيد أن تتوحد الربوبية ، فتتوحد العبودية . . لا عبودية إلا لله . ولا طاعة إلا لله . ولا تلقي إلا عن الله . فليس إلا لله تكون العبودية . وليس إلا لله تكون الطاعة . وليس إلا عن الله يكون التلقي . . التلقي في التشريع ، والتلقي في القيم والموازين ، والتلقي في الآداب والأخلاق . والتلقي في كل ما يتعلق بنظام الحياة البشرية . . وإلا فهو الشرك أو الكفر . مهما اعترفت الألسنة ، ومهما اعترفت القلوب الاعتراف السلبي الذي لا ينشىء آثاره في حياة الناس العامة في استسلام وطاعة واستجابة وقبول .
إن هذا الكون بجملته لا يستقيم أمره ولا يصلح حاله ، إلا أن يكون هناك إله واحد ، يدبر أمره : و( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) . . وأظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية : تعبد العبيد ؛ والتشريع لهم في حياتهم ، وإقامة الموازين لهم . فمن ادعى لنفسه شيئا من هذا كله فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية ؛ وأقام نفسه للناس إلها من دون الله .
وما يقع الفساد في الأرض كما يقع عندما تتعدد الآلهة في الأرض على هذا النحو . عندما يتعبد الناس الناس . عندما يدعي عبد من العبيد أن له على الناس حق الطاعة لذاته ؛ وأن له فيهم حق التشريع لذاته ؛ وأن له كذلك حق إقامة القيم والموازين لذاته . فهذا هو ادعاء الألوهية ولو لم يقل كما قال فرعون : ( أنا ربكم الأعلى ) . . والإقرار به هو الشرك بالله أو الكفر به . . وهو الفساد في الأرض أقبح الفساد .
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : عن هذا إلى غيره . { فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ } أي : من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد والله عليم به ، وسيجزيه على ذلك شر الجزاء ، وهو القادر ، الذي لا يفوته شيء [ سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول نقمه ]{[5146]} .
{ إِنّ هََذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ اللّهُ وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِن تَوَلّوْا فَإِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن هذا الذي أنبأتك به يا محمد من أمر عيسى ، فقصصته عليك من أنبائه ، وأنه عبدي ورسولي ، وكلمتي ألقيتها إلى مريم ، وروح مني ، { لَهُوَ القَصَصُ } والنبأ { الحَقّ } فاعلم ذلك ، واعلم أنه ليس للخلق معبود يستوجب عليهم العبادة بملكه إياهم إلا معبودك الذي تعبده وهو الله العزيز الحكيم .
ويعني بقوله { العَزِيزُ } : العزيز في انتقامه ممن عصاه ، وخالف أمره ، وادّعى معه إلها غيره ، أو عبد ربا سواه ، { الحَكِيمُ } في تدبيره ، لا يدخل ما دبره وهْن ولا يلحقه خلل .
{ فإنْ تَوَلّوْا } يعني فإن أدبر هؤلاء الذين حاجوك في عيسى عما جاءك من الحقّ من عند ربك في عيسى وغيره ، من سائر ما آتاك الله من الهدى والبيان ، فأعرضوا عنه ، ولم يقبلوه¹ { فإنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالمُفْسِدِينَ } ، يقول : فإن الله ذو علم بالذين يعصون ربهم ، ويعملون في أرضه وبلاده بما نهاهم عنه ، وذلك هو إفسادهم ، يقول تعالى ذكره : فهو عالم بهم وبأعمالهم ، يحصيها عليهم ويحفظها حتى يجازيهم عليها جزاءهم .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل : ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { إنّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقّ } أي إن هذا الذي جئت به من الخبر عن عيسى ، لهو القصص الحقّ من أمره .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { إنّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ } . إن هذا الذي قلنا في عيسى لهو القصص الحقّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { إنّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقّ } قال : إن هذا القصص الحقّ في عيسى ، ما ينبغي لعيسى أن يتعدّى هذا ، ولا يجاوز أن يتعدى أن يكون كلمة الله ألقاها إلى مريم وروحا منه وعبد الله ورسوله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { إنّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقّ } : إن هذا الذي قلنا في عيسى هو الحقّ { وَمَا مِنْ إلَهٍ إلاّ اللّهُ } . . . الاَية .
فلما فصل جل ثناؤه بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبين الوفد من نصارى نجران بالقضاء الفاصل والحكم العادل أمره إن هم تولوا عما دعاهم إليه من الإقرار بوحدانية الله ، وأنه لا ولد له ولا صاحبة ، وأن عيسى عبده ورسوله وأبوا إلا الجدل والخصومة أن يدعوهم إلى الملاعنة ، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم انخذلوا ، فامتنعوا من الملاعنة ودعوا إلى المصالحة ، كالذي .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عامر ، قال : فأمر يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم بملاعنتهم يعني بملاعنة أهل نجران بقوله : { فَمَنْ حاجّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْمِ } . . . الآية . فتواعدوا أن يلاعنوه ، وواعدوه الغد ، فانطلقوا إلى السيد والعاقب ، وكانا أعقلهم فتابعاهم ، فانطلقوا إلى رجل منهم عاقل ، فذكروا له ما فارقوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما صنعتم ! وندّمهم ، وقال لهم : إن كان نبيا ثم دعا عليكم لا يغضبه الله فيكم أبدا ، ولئن كان ملكا فظهر عليكم لا يستبقيكم أبدا . قالوا : فكيف لنا وقد واعدنا ؟ فقال لهم : إذا غدوتم إليه فعرض عليكم الذي فارقتموه عليه ، فقولوا : نعوذ بالله ! فإن دعاكم أيضا ، فقولوا له : نعوذ بالله ! ولعله أن يعفيكم من ذلك . فلما غدوا ، غدا النبيّ صلى الله عليه وسلم محتضنا حَسَنا آخذا بيد الحسين وفاطمة تمشي خلفه ، فدعاهم إلى الذي فارقوه عليه بالأمس ، فقالوا : نعوذ الله ! ثم دعاهم ، فقالوا : نعوذ بالله ! مرارا . قال : «فإنْ أبَيْتُمْ فأسْلِمُوا ، وَلَكُمْ ما لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْكُمْ ما على المُسْلِمينَ ، كما قال الله عزّ وجلّ¹ فإنْ أبَيْتُمْ فأعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وأنْتُمْ صَاغِرُونَ ، كما قال الله عَزّ وَجَلّ » ، قالوا : ما نملك إلا أنفسنا . قال : «فإنْ أبَيْتُمْ فَإنّي أنْبِذُ إلَيْكُمْ عَلى سَوَاءٍ ، كما قال الله عزّ وجلّ » ، قالوا : ما لنا طاقة بحرب العرب ، ولكن نؤدّي الجزية . قال : فجعل عليهم في كل سنة ألفي حلة ، ألفا في رجب وألفا في صفر . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «قَدْ أتانِي البَشِيرُ بِهَلَكَةِ أهْلِ نَجْرَانَ حتى الطّيْرُ على الشّجَرِ أوِ العَصَافِيرُ عَلى الشّجَرِ ، لو تَمّوا على المُلاَعَنَة » . حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، قال : فقلت للمغيرة : إن الناس يرون في حديث أهل نجران أن عليا كان معهم ! فقال : أما الشعبي فلم يذكره ، فلا أدري لسوء رأي بني أمية في عليّ ، أو لم يكن في الحديث .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { إنّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقّ } إلى قوله :
{ فَقُولُوا اشْهَدُوا بأنّا مُسْلِمُونَ } فدعاهم إلى النّصَف وقطع عنهم الحجة . فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله عنه ، والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمره بما أمره به من ملاعنتهم ، إن ردّوا عليه¹ دعاهم إلى ذلك ، فقالوا : يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه . فانصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب ، وكان ذا رأيهم ، فقالوا : يا عبد المسيح ما ترى ؟ قال : والله يا معشر النصارى ، لقد عرفتم أن محمدا نبيّ مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم ، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمنٌ رأيه . فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ، ونرجع على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم عندنا رضا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا عيسى بن فرقد ، عن أبي الجارود ، عن زيد بن عليّ في قوله : { تَعَالَوْا نَدْعُ أبْنَاءَنا وأبْناءكُمْ } . . . الاَية . قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط عن السدي : { فَمَنْ حاجّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْمِ } . . . الآية ، فأخذ يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم بيد الحسن والحسين وفاطمة ، وقال لعليّ : «اتْبَعْنَا ! » فخرج معهم ، فلم يخرج يومئذ النصارى ، وقالوا : إنا نخاف أن يكون هذا هو النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وليس دعوة النبيّ كغيرها ، فتخلفوا عنه يومئذ . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَوْ خَرَجُوا لاَحْتَرَقُوا » . فصالحوه على صلح على أن له عليهم ثمانين ألفا فما عجزت الدراهم ففي العروض الحلة بأربعين ، وعلى أن له عليهم ثلاثا وثلاثين درعا ، وثلاثا وثلاثين بعيرا ، وأربعة وثلاثين فرسا غازية كل سنة ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضامن لها حتى نؤديها إليهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا وفدا من وفد نجران من النصارى ، وهم الذين حاجوه في عيسى ، فنكصوا عن ذلك وخافوا . وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ ، إنْ كانَ العَذَابُ لَقَدْ تَدَلّى على أهْلِ نَجْرَانَ ، وَلَوْ فَعَلُوا لاسْتُؤْصِلُوا عَنْ جَدِيدِ الأرْضِ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { فَمَنْ حاجّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْناءَنا وأبْناءَكُمْ } قال : بلغنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلاً عن أهل نجران ، فلما رأوه خرج ، هابوا وفرقوا ، فرجعوا . قال معمر ، قال قتادة : لما أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أهل نجران أخذ بيد حسن وحسين وقال لفاطمة :
«اتْبَعِينَا » ، فلما رأى ذلك أعداءُ الله رجعوا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لو خرج الذين يباهلون النبيّ صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا زكريا ، عن عديّ قال : حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَالّذِي نفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا عَنُونِي ما حالَ الحَوْلُ وَبحَضْرَتِهِمْ مِنْهُمْ أحَدٌ إلاّ أهْلَكَ اللّهُ الكاذِبِينَ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا ابن زيد ، قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو لاعنت القوم بمن كنت تأتي حين قلت { أبْناءَنا وأبْناءَكُمْ } ؟ قال : «حَسَن وحُسَيْن » .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا المنذر بن ثعلبة ، قال : حدثنا علباء بن أحمر اليشكري ، قال : لما نزلت هذه الاَية : { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْناءَنا وأبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءكُمْ } الآية ، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عليّ وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ، ودعا اليهود ليلاعنهم فقال شاب من اليهود : ويحكم أليس عهدكم بالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير ؟ لا تلاعنوا ! فانتهوا .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{فإنْ تَوَلّوْا}: فإن أدبر هؤلاء الذين حاجوك في عيسى عما جاءك من الحقّ من عند ربك في عيسى وغيره، من سائر ما آتاك الله من الهدى والبيان، فأعرضوا عنه، ولم يقبلوه {فإنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالمُفْسِدِينَ}: فإن الله ذو علم بالذين يعصون ربهم، ويعملون في أرضه وبلاده بما نهاهم عنه، وذلك هو إفسادهم، يقول تعالى ذكره: فهو عالم بهم وبأعمالهم، يحصيها عليهم ويحفظها حتى يجازيهم عليها جزاءهم...
فلما فصل جل ثناؤه بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبين الوفد من نصارى نجران بالقضاء الفاصل والحكم العادل، أمره إن هم تولوا عما دعاهم إليه من الإقرار بوحدانية الله، وأنه لا ولد له ولا صاحبة، وأن عيسى عبده ورسوله وأبوا إلا الجدل والخصومة أن يدعوهم إلى الملاعنة، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم انخذلوا، فامتنعوا من الملاعنة ودعوا إلى المصالحة.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{فإنْ تَوَلّوْا}: أعرضوا عن الإيمان... {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ}: الذّين يعبدون غير اللّه ويدعون النّاس إلى عبادة غيره...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
التولي عن الحق: هو اعتقاد خلافه بعد ظهوره، لأنه كالإدبار عنه بعد الإقبال. وتولى عنه خلاف تولى إليه. والأصل واحد. فأصل التولي: كون الشيء يلي غيره من غير فصل بينه وبينه، فقيل تولى عنه أي زال عن جهته. "فإن الله عليم بالمفسدين": إنما خص المفسدين بأنه عليم بهم على جهة التهديد لهم، والوعد بما يعلمه مما وقع من إفسادهم كما يقول القائل أنا أعلم بسر فلان وما يجري إليه من الفساد. والإفساد إيقاع الشيء على خلاف ما توجبه الحكمة، وهو ضد الإصلاح، لأنه إيقاع الشيء على مقدار ما توجبه الحكمة. والفرق بين الفساد والقبيح: أن الفساد تغيير عن المقدار الذي تدعو إليه الحكمة بدلالة أن نقيضه الصلاح، فاذا قصر عن المقدار أو أفرط لم يصلح، فاذا كان على المقدار صلح، وليس كذلك القبيح، لأنه ليس فيه معنى المقدار. وإنما القبيح ما تزجر عنه الحكمة كما أن الحسن ما تدعوا إليه الحكمة...
{فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين}: فإن تولوا عما وصفت من أن الله هو الواحد، وأنه يجب أن يكون عزيزا غالبا قادرا على جميع المقدورات، حكيما عالما بالعواقب والنهايات مع أن عيسى عليه السلام ما كان عزيزا غالبا، وما كان حكيما عالما بالعواقب والنهايات. فاعلم أن توليهم وإعراضهم ليس إلا على سبيل العناد فاقطع كلامك عنهم وفوض أمرهم إلى الله، فإن الله عليم بفساد المفسدين، مطلع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة، قادر على مجازاتهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فإن تولوا} ولم يجيبوا الدعوة إلى المباهلة ولم يقبلوا عقيدة التوحيد الخالص {فإن الله عليم بالمفسدين}: لعقائد الناس بإصرارهم على الباطل تقليدا محضا لا برهان يؤيده. ولا بصيرة تعضده، وإفساد العقائد إفساد للعقل وهو رأس كل إفساد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنما الجديد هو وصف الذين يتولون عن الحق بأنهم مفسدون، وتهديدهم بأن الله عليم بالمفسدين..
والفساد الذي يتولاه المعرضون عن حقيقة التوحيد فساد عظيم. وما ينشأ في الأرض الفساد -في الواقع- إلا من الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة. لا اعتراف اللسان. فاعتراف اللسان لا قيمة له. ولا اعتراف القلب السلبي. فهذا الاعتراف لا ينشئ آثاره الواقعية في حياة الناس.. إنما هي الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة بكل آثارها التي تلازمها في واقع الحياة البشرية.. وأول ما يلازم حقيقة التوحيد أن تتوحد الربوبية، فتتوحد العبودية.. لا عبودية إلا لله. ولا طاعة إلا لله. ولا تلقي إلا عن الله. فليس إلا لله تكون العبودية. وليس إلا لله تكون الطاعة. وليس إلا عن الله يكون التلقي.. التلقي في التشريع، والتلقي في القيم والموازين، والتلقي في الآداب والأخلاق. والتلقي في كل ما يتعلق بنظام الحياة البشرية.. وإلا فهو الشرك أو الكفر. مهما اعترفت الألسنة، ومهما اعترفت القلوب الاعتراف السلبي الذي لا ينشئ آثاره في حياة الناس العامة في استسلام وطاعة واستجابة وقبول.
إن هذا الكون بجملته لا يستقيم أمره ولا يصلح حاله، إلا أن يكون هناك إله واحد، يدبر أمره: و (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا).. وأظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية: تعبد العبيد؛ والتشريع لهم في حياتهم، وإقامة الموازين لهم. فمن ادعى لنفسه شيئا من هذا كله فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية؛ وأقام نفسه للناس إلها من دون الله.
وما يقع الفساد في الأرض كما يقع عندما تتعدد الآلهة في الأرض على هذا النحو. عندما يتعبد الناس الناس. عندما يدعي عبد من العبيد أن له على الناس حق الطاعة لذاته؛ وأن له فيهم حق التشريع لذاته؛ وأن له كذلك حق إقامة القيم والموازين لذاته. فهذا هو ادعاء الألوهية ولو لم يقل كما قال فرعون: (أنا ربكم الأعلى).. والإقرار به هو الشرك بالله أو الكفر به.. وهو الفساد في الأرض أقبح الفساد..
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أمّا الدرس الذي نستفيده من ذلك كلّه، فهو العمل على توظيف الجانب الإيماني، بعد ممارسة الجوانب العملية والفكرية، في الحوار الهادئ العميق بين الإسلام وخصومه، انطلاقاً من الفكرة الحاسمة الواقعية التي تقول: إنَّ على الداعية أن لا يهمل أيّ عنصر من عناصر التأثير على الآخرين في إيصالهم إلى الحقيقة، أو في الإيحاء إليهم بالاطمئنان إلى قوّة هذه الحقيقة.. حتّى ليقف الإنسان في أشدّ المواقف حراجة في مجالات التحدّي لثقته بأنَّ الدعوة في المستوى القوي لمواجهة التحدّي بأقوى منه...