وأخرهم - سبحانه - عن أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ، لتشويق السامع إلى معرفة أحوالهم ، وبيان ما أعد لهم من ثواب عظيم ، فصله بعد ذلك فى قوله - تعالى - : { أولئك المقربون فِي جَنَّاتِ النعيم . . } أى : والسابقون غيرهم إلى كل فضيلة وطاعة ، أولئك هم المقربون عند الله - تعالى - وأولئك هم الذين مقرهم جنات النعيم .
فالجملة الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأنها جواب يثيره فى النفوس قوله - تعالى - { والسابقون السابقون } و { أولئك } مبتدأ ، وخبره ما بعده . وما فيه من معنى البعد ، مع قرب العهد بالمشار إليه ، للإشعار يسمو منزلتهم عند الله - تعالى - ولفظ { المقربون } مأخوذ من القربة بمعنى الخطوة ، وهو أبلغ من القريب ، للدلالة صيغته على الاصطفاء والاختباء .
أى : أولئك هم المقربون من ربهم - عز وجل - قرب لا يعرف أحد مقداره .
ومن ثم يأخذ في بيان قدرهم عند ربهم ، وتفصيل ما أعده من النعيم لهم ، وتعديد أنواعه التي يمكن أن يدركها حس المخاطبين ، وتتناوله معارفهم وتجاربهم :
( أولئك المقربون . في جنات النعيم . ثلة من الأولين . وقليل من الآخرين . على سرر موضونة . متكئين عليها متقابلين . يطوف عليهم ولدان مخلدون . بأكواب وأباريق وكأس من معين . لا يصدعون عنها ولا ينزفون . وفاكهة مما يتخيرون . ولحم طير مما يشتهون . وحور عين . كأمثال اللؤلؤ المكنون . جزاء بما كانوا يعملون . لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما . إلا قيلا : سلاما سلاما ) . .
إنه يبدأ في بيان هذا النعيم ، بالنعيم الأكبر . النعيم الأسنى . نعيم القرب من ربهم : ( أولئك المقربون في جنات النعيم ) . .
وقال أحمد أيضا : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثنا خالد بن أبي عمران ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " أتدرون من السابقون إلى ظل يوم القيامة ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم " {[27999]} .
وقال محمد بن كعب وأبو حَرْزَةَ يعقوب بن مجاهد : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } : هم الأنبياء ، عليهم السلام . وقال السُّدِّيّ : هم أهل عليين . وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } ، قال : يوشع بن نون ، سبق إلى موسى ، ومؤمن آل " يس " ، سبق إلى عيسى ، وعلي بن أبي طالب ، سبق إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه ابن أبي حاتم ، عن محمد بن هارون الفلاس ، عن عبد الله بن إسماعيل المدائني البزاز ، عن شُعَيْب بن الضحاك المدائني ، عن سفيان بن عُيَيْنَة ، عن ابن أبي نَجِيح به .
وقال ابن أبي حاتم : وذكر محمد {[28000]} بن أبي حماد ، حدثنا مِهْرَان ، عن خارجة ، عن قُرَّة ، عن ابن سِيرين : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } الذين صلوا للقبلتين .
ورواه ابن جرير{[28001]} من حديث خارجة ، به .
وقال الحسن وقتادة : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } أي : من كل أمة .
وقال الأوزاعي ، عن عثمان بن أبي سودة أنه قرأ هذه الآية : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } ثم قال : أولهم رواحًا إلى المسجد ، وأولهم خروجًا في سبيل الله .
وهذه الأقوال كلها صحيحة ، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا ، كما قال تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ } [ آل عمران : 133 ] ، وقال : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } [ الحديد : 22 ] ، فمن سابق إلى هذه الدنيا وسبق إلى الخير ، كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة ، فإن الجزاء من جنس العمل ، وكما تدين تدان ؛ ولهذا قال تعالى : { أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ . فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن زكريا القزاز{[28002]} الرازي ، حدثنا خارجة بن مُصعَب ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو قال : قالت الملائكة : يا رب ، جعلت لبني آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون ، فاجعل لنا الآخرة . فقال : لا أفعل . فراجعوا ثلاثا ، فقال : لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له : كن ، فكان . ثم قرأ عبد الله : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ . فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } .
وقد روى هذا الأثر الإمام عثمان{[28003]} بن سعيد الدارمي في كتابه : " الرد على الجهمية " ، ولفظه : فقال الله عز وجل : " لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ، كمن قلت له : كن فكان " {[28004]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.