ثم تفخيم لهذا الشأن وتعظيم : ( وما أدراك ما العقبة ! ) . . إنه ليس تضخيم العقبة ، ولكنه تعظيم شأنها عند الله ، ليحفز به " الإنسان " إلى اقتحامها وتخطيها ؛ مهما تتطلب من جهد ومن كبد . فالكبد واقع واقع . وحين يبذل لاقتحام العقبة يؤتي ثمره ويعوض المقتحم عما يكابده ، ولا يذهب ضياعا وهو واقع واقع على كل حال !
ويبدأ كشف العقبة وبيان طبيعتها بالأمر الذي كانت البيئة الخاصة التي تواجهها الدعوة في أمس الحاجة إليه : فك الرقاب العانية ؛ وإطعام الطعام والحاجة إليه ماسة للضعاف الذين تقسو عليهم البيئة الجاحدة المتكالبة ، وينتهي بالأمر الذي لا يتعلق ببيئة خاصة ولا بزمان خاص ، والذي تواجهه النفوس جميعا ، وهي تتخطى العقبة إلى النجاة : ( ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ) . . .
وقوله : وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ ؟ يقول تعالى ذكره : وأيّ شيء أشعرك يا محمد ما العقبة ؟ .
ثم بين جلّ ثناؤه له ، ما العقبة ، وما النجاة منها ، وما وجه اقتحامها ؟ فقال : اقتحامها وقطعها فكّ رقبة من الرقّ ، وأسر العبودة ، كما :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلّية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ فَكّ رَقَبَةٍ قال : ذُكر لنا أنه ليس مسلم يعتق رقبة مسلمة ، إلا كانت فداءه من النار .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ فَكّ رَقَبَةٍ ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الرقاب أيها أعظم أجرا ؟ قال : «أكثرها ثمنا » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا سالم بن أبي الجعد ، عن مَعْدان بن أبي طلحة ، عن أبي نجيح ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «أيّمَا مُسْلِم أعْتَقَ رَجُلاً مُسْلما ، فإنّ اللّهَ جاعِلُ وَفاءَ كُلّ عَظْيمٍ مِنْ عِظامِهِ ، عَظْما مِنْ عِظامِ مُحَرّرهِ مِنَ النّارِ وأيّمَا امْرأةٍ مُسْلَمَةٍ أعْتَقَتْ امْرأةً مُسْلِمَةً ، فإنّ اللّهَ جاعِلُ وَفاءَ كُلّ عَظْمٍ مِنْ عِظامِها ، عَظْما مِنْ عِظامِ مُحَرّرِها مِنَ النّارِ » .
قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن قيس الجُذاميّ ، عن عقبة بن عامر الجُهَنيّ ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ أعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً ، فَهِيَ فِدَاؤُهُ مِنَ النّارِ » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ ثم أخبر عن اقتحامها فقال : فَكّ رَقَبَة أوْ أطْعَمَ .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء البصرة ، عن ابن أبي إسحاق ، ومن الكوفيين : الكسائي : «فَكّ رَقَبَةٍ أوْ أطْعَمَ » . وكان أبو عمرو بن العلاء يحتجّ فيما بلغني فيه بقوله : ثُمّ كانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا كأن معناه : كان عنده ، فلا فكّ رقبة ، ولا أطعم ، ثم كان من الذين آمنوا . وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والشأم فَكّ رَقَبَةٍ على الإضافة أوْ إطْعامٌ على وجه المصدر .
والصواب من القول في ذلك : أنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، وتأويل مفهوم ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . فقراءته إذا قرىء على وجه الفعل تأويله : فلا اقتحم العقبة ، لا فكّ رقبة ، ولا أطعم ، ثم كان من الذين آمنوا ، وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ على التعجب والتعظيم . وهذه القراءة أحسن مخرجا في العربية ، لأن الإطعام اسم ، وقوله : ثُمّ كانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا فعل ، والعرب تُؤْثِر ردّ الأسماء على الأسماء مثلها ، والأفعال على الأفعال ، ولو كان مجيء التّنزيل ثم إن كان من الذين آمنوا ، كان أحسن ، وأشبه بالإطعام والفكّ من ثم كان ، ولذلك قلت : «فَكّ رَقَبَةٍ أوْ أطْعَمَ » أوجه في العربية من الاَخر ، وإن كان للاَخر وجه معروف ، ووجهه أنْ تضمر أن ثم تلقى ، كما قال طرفة بن العبد :
ألا أيّهاذا الزّاجري أحْضُرَ الْوَغَى *** وأنْ أشْهَدَ اللّذّاتِ هَلْ أنتَ مُخْلِدي
بمعنى : ألا أيهاذا الزاجري أن أحضر الوغى . وفي قوله : «أن » أشهد الدلالة البنية على أنها معطوفة على أن أخرى مثلها ، قد تقدّمت قبلها ، فذلك وجه جوازه . وإذا وُجّه الكلام إلى هذا الوجه كان قوله : فَكّ رَقَبَةٍ أوْ إطْعامٌ تفسيرا لقوله : وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ كأنه قيل : وما أدراك ما العقبة ؟ هي فكّ رقبة أوْ إطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ كما قال جلّ ثناؤه : وَما أدْرَاكَ ماهِيَهْ ، ثم قال : نارٌ حامِيَةٌ مفسرا لقوله : وأُمّهُ هاوِيَةٌ ، ثم قال : وما أدراك ما الهاوية ؟ هي نار حامية .
فلا أقتحم العقبة أي فلم يشكر تلك الأيادي باقتحام العقبة وهو الدخول في أمر شديد و العقبة الطريق في الجبل استعارها بما فسرها عز وجل من الفلك والإطعام في قوله وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة لما فيهما من مجاهدة النفس ولتعدد المراد بها حسن وقوع لا موقع لم فإنها لا تكاد تقع إلا مكررة إذ المعنى فلا فك رقبة ولا أطعم يتيما أو مسكينا والمسغبة والمقربة والمتربة مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب وترب إذا افتقر وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي فك رقبة أو أطعم على الإبدال من اقتحم وقوله تعالى وما أدراك ما العقبة اعترض معناه إنك لم تدركنه صعوبتها وثوابها .
وقوله : { وما أدراك ما العقبة } حال من العقبة في قوله : { فلا اقتحم العقبة } للتنويه بها وأنها لأهميتها يَسأل عنها المخاطب هل أعلَمَهُ مُعْلِم ما هي ، أي لم يقتحم العقبة في حال جَدارتها بأن تُقتحم .
وهذا التنويه يفيد التشويق إلى معرفة المراد من العقبة .
و{ ما } الأولى استفهام . و{ ما } الثانية مثلها . والتقدير : أيُّ شيء أعلمك ما هي العقبة ، أي أعْلَمك جواب هذا الاستفهام ، كناية عن كونه أمراً عزيزاً يحتاج إلى من يُعلمك به .
والخطاب في { ما أدراك } لغير معين لأن هذا بمنزلة المثل .
وفِعل { أدراك } معلق عن العمل في المفعولين لوقوع الاستفهام بعده وقد تقدم نظيره في سورة الحاقة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله : "وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ" ؟ يقول تعالى ذكره : وأيّ شيء أشعرك يا محمد ما العقبة ؟ .
ثم بين جلّ ثناؤه له ، ما العقبة ، وما النجاة منها ، وما وجه اقتحامها ؟
فقال : اقتحامها وقطعها فكّ رقبة من الرقّ ، وأسر العبودة...
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء البصرة ، عن ابن أبي إسحاق ، ومن الكوفيين : الكسائي : «فَكَّ رَقَبَةٍ أوْ أطْعَمَ » . وكان أبو عمرو بن العلاء يحتجّ فيما بلغني فيه بقوله : "ثُمّ كانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا" كأن معناه : كان عنده ، فلا فكّ رقبة ، ولا أطعم ، ثم كان من الذين آمنوا . وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والشأم "فَكُّ رَقَبَةٍ" على الإضافة "أوْ إطْعامٌ" على وجه المصدر .
والصواب من القول في ذلك : أنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، وتأويل مفهوم ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
فقراءته إذا قرئ على وجه الفعل تأويله : فلا اقتحم العقبة ، لا فكّ رقبة ، ولا أطعم ، ثم كان من الذين آمنوا ، وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ على التعجب والتعظيم . وهذه القراءة أحسن مخرجا في العربية ، لأن الإطعام اسم ، وقوله : "ثُمّ كانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا" فعل ، والعرب تُؤْثِر ردّ الأسماء على الأسماء مثلها ، والأفعال على الأفعال ، ولو كان مجيء التّنزيل ثم إن كان من الذين آمنوا ، كان أحسن ، وأشبه بالإطعام والفكّ من ثم كان ، ولذلك قلت : «فَكّ رَقَبَةٍ أوْ أطْعَمَ » أوجه في العربية من الآخر ، وإن كان للآخر وجه معروف ، ووجهه أنْ تضمر أن ثم تلقى ... وإذا وُجّه الكلام إلى هذا الوجه كان قوله : "فَكّ رَقَبَةٍ أوْ إطْعامٌ" تفسيرا لقوله : "وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ" كأنه قيل : وما أدراك ما العقبة ؟ هي "فكّ رقبة أوْ إطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ" كما قال جلّ ثناؤه : "وَما أدْرَاكَ ماهِيَهْ" ، ثم قال : "نارٌ حامِيَةٌ" مفسرا لقوله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
اعتراض ، ومعناه : أنك لم تدرِ كُنْهَ صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله . ...
...فالمراد وما أدراك ما اقتحام العقبة ، وهذا تعظيم لأمر التزام الدين . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تفخيم لهذا الشأن وتعظيم : ( وما أدراك ما العقبة ! ) . . إنه ليس تضخيم العقبة ، ولكنه تعظيم شأنها عند الله ، ليحفز به " الإنسان " إلى اقتحامها وتخطيها ؛ مهما تتطلب من جهد ومن كبد . فالكبد واقع واقع . وحين يبذل لاقتحام العقبة يؤتي ثمره ويعوض المقتحم عما يكابده ، ولا يذهب ضياعا وهو واقع واقع على كل حال !
ويبدأ كشف العقبة وبيان طبيعتها بالأمر الذي كانت البيئة الخاصة التي تواجهها الدعوة في أمس الحاجة إليه : فك الرقاب العانية ؛ وإطعام الطعام والحاجة إليه ماسة للضعاف الذين تقسو عليهم البيئة الجاحدة المتكالبة ، وينتهي بالأمر الذي لا يتعلق ببيئة خاصة ولا بزمان خاص ، والذي تواجهه النفوس جميعا ، وهي تتخطى العقبة إلى النجاة : ( ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ) . . .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوله : { وما أدراك ما العقبة } حال من العقبة في قوله : { فلا اقتحم العقبة } للتنويه بها وأنها لأهميتها يَسأل عنها المخاطب هل أعلَمَهُ مُعْلِم ما هي ، أي لم يقتحم العقبة في حال جَدارتها بأن تُقتحم .
وهذا التنويه يفيد التشويق إلى معرفة المراد من العقبة .
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
هذا الاستفهام للتشويق والتفخيم أيضاً ، يعني : ما الذي أعلمك شأن هذه العقبة...