{ لقد خلقنا الإنسان في كبد } روى الوالبي عن ابن عباس : في نصب . قال الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة . وقال قتادة : في مشقة فلا تلقاه إلا يكابد أمر الدنيا . وقال سعيد بن جبير : في شدة . وقال عطاء عن ابن عباس : في شدة خلق حمله وولادته ورضاعه ، وفطامه وفصاله ومعاشه وحياته وموته . وقال عمرو بن دينار : عند نبات أسنانه . قال يمان : لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم ، وهو مع ذلك أضعف الخلق . وأصل الكبد : الشدة . وقال مجاهد ، وعكرمة ، وعطية ، والضحاك : يعني منتصباً معتدل القامة ، وكل شيء خلق فإنه يمشي مكباً ، وهي رواية مقسم عن ابن عباس ، وأصل الكبد : الاستواء والاستقامة . وقال ابن كيسان : منتصباً رأسه في بطن أمه فإذا أذن الله في خروجه انقلب رأسه إلى رجلي أمه . وقال مقاتل : في كبد أي في قوة . نزلت في أبي الأشد ، واسمه أسيد بن كلدة الجمحي ، وكان شديداً قوياً يضع الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول : من أزالني عنه فله كذا وكذا ، فلا يطاق أن ينزع من تحت قدميه إلا قطعاً ويبقى موضع قدميه .
وقوله - تعالى - { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} جواب القسم . والمراد بالإِنسان : جنسه ، والكبد : الشدة والتعب والمشقة ، من المكابدة للشئ ، بمعنى تحمل المشاق والمتاعب فى فعله ، وأصله من كَبِد الرجل - بزنة طرب - فهو أَكْبَد ، إذا أصيبت كبده بالمرض ، ثم اتسع فيه فاستعمل فى كل تعب ومشقة تنال الإِنسان .
والمعنى : لقد خلقنا الإِنسان لهذه الشدائد والآلام ، التى هى من طبيعة هذه الحياة الدنيا ، والتى لا يزال يكابدها وينوء بها ، ويتفاعل معها . . حتى تنتهى حياته ، ولا فرق فى ذلك بين غنى أو فقير ، وحاكم أو محكوم وصالح أو طالح . . فالكل يجاهد ويكابد ويتعب ، من أجل بلوغ الغاية التى يبتغيها .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَد } أى : فى تعب ومشقة ، فإنه لا يزال يقاسى فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها .
وعن ابن عمر - رضى الله عنهما - يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء . وقيل : لقد خلقناه منتصب القامة واقفا ، ولم نجعله منكبا على وجهه .
وقيل : جعلناه منتصبا رأسه فى بطن أمه ، فإذا أذن له فى الخروج قلب رأسه إلى قدمى أمه . . وهذه الأقوال ضعيفة لا يعول عليها ، والصحيح الأول . .
والحق أن تفسير الكبد بالمشقة والتعب ، هو الذى تطمئن إليه النفس ؛ لأنه لا يوجد فى هذه الحياة إِنسان إلا وهو مهموم ومشغول بمطالب حياته ، وفى كبد وتعب للحصول على آماله ورغباته وغاياته ، ورحم الله القائل :
تعب كلها الحياة فما أعجب . . . إلا من راغب فى ازدياد
وقال - سبحانه - { فِي كَبَد } للإِشعار بأنه لشدة مقاساته ومكابدته للمشاق والمتاعب ، وعدم انفكاكه عنها . . كالظِرف بداخل المظروف فهو فى محن ومتاعب ، حتى يصير إلى عالم آخر تغاير أحوالهُ أحوالَ هذا العالم .
يقسم هذا القسم على حقيقة ثابتة في حياة الكائن الإنساني :
( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) . .
في مكابدة ومشقة ، وجهد وكد ، وكفاح وكدح . . كما قال في السورة الأخرى : ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) . .
الخلية الأولى لا تستقر في الرحم حتى تبدأ في الكبد والكدح والنصب لتوفر لنفسها الظروف الملائمة للحياة والغذاء - بإذن ربها - وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج ، فتذوق من المخاض - إلى جانب ما تذوقه الوالدة - ما تذوق . وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضغط ودفع حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم !
ومنذ هذه اللحظة يبدأ الجهد الأشق والكبد الأمر . يبدأ الجنين ليتنفس هذا الهواء الذي لا عهد له به ، ويفتح فمه ورئتيه لأول مرة ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية ! وتبدأ دورته الهضمية ودورته الدموية في العمل على غير عادة ! ويعاني في إخراج الفضلات حتى يروض أمعاءه على هذا العمل الجديد ! وكل خطوة بعد ذلك كبد ، وكل حركة بعد ذلك كبد . والذي يلاحظ الوليد عندما يهم بالحبو وعندما يهم بالمشي يدرك كم يبذل من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة .
وعند بروز الأسنان كبد . وعند انتصاب القامة كبد . وعند الخطو الثابت كبد . وعند التعلم كبد . وعند التفكر كبد . وفي كل تجربة جديدة كبد كتجربة الحبو والمشي سواء !
ثم تفترق الطرق ، وتتنوع المشاق ؛ هذا يكدح بعضلاته . وهذا يكدح بفكره . وهذا يكدح بروحه . وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء . وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين وعشرة آلاف . . . وهذا يكدح لملك أو جاه ،
وهذا يكدح في سبيل الله . وهذا يكدح لشهوة ونزوة . وهذا يكدح لعقيدة ودعوة . وهذا يكدح إلى النار . وهذا يكدح إلى الجنة . . والكل يحمل حمله ويصعد الطريق كادحا إلى ربه فيلقاه ! وهناك يكون الكبد الأكبر للأشقياء . وتكون الراحة الكبرى للسعداء .
إنه الكبد طبيعة الحياة الدنيا . تختلف أشكاله وأسبابه . ولكنه هو الكبد في النهاية . فأخسر الخاسرين هو من يعاني كبد الحياة الدنيا لينتهي إلى الكبد الأشق الأمر في الأخرى . وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كبد الحياة ، وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال الله .
على أن في الأرض ذاتها بعض الجزاء على ألوان الكدح والعناء . إن الذي يكدح للأمر الجليل ليس كالذي يكدح للأمر الحقير . ليس مثله طمأنينة بال وارتياحا للبذل ، واسترواحا بالتضحية ، فالذي يكدح وهو طليق من أثقال الطين ، أو للانطلاق من هذه الأثقال ، ليس كالذي يكدح ليغوص في الوحل ويلصق بالأرض كالحشرات والديدان ! والذي يموت في سبيل دعوة ليس كالذي يموت في سبيل نزوة . . ليس مثله في خاصة شعوره بالجهد والكبد الذي يلقاه .
وقوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ وهذا هو جواب القسم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : وقع ها هنا القسم لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : لقد خلقنا ابن آدم في شدّة وعناء ونصب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ يقول : في نَصَب .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن ، أنه قال في هذه الاَية : لَقَدْ خَلَقَنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ يقول : في شدّة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ حين خُلِق في مشقة لا يُلفى ابن آدم إلا مكابد أمر الدنيا والاَخرة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : فِي كَبَدٍ قال : يكابد أمر الدنيا والاَخرة .
وقال بعضهم : خُلِق خَلْقا لم نَخْلق خلقَه شيئا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن عليّ بن رفاعة ، قال : سمعت الحسن يقول : لم يخلق الله خلقا يكابد ما يُكابد ابن آدم .
قال : ثنا وكيع ، عن عليّ بن رفاعة ، قال : سمعت سعيد بن أبي الحسن يقول : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : يكابد مصائب الدنيا ، وشدائد الاَخرة .
قال : ثنا وكيع ، عن النضر ، عن عكرِمة قال : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في شدّة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في شدّة .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : في شدّة معيشته ، وحمله وحياته ، ونبات أسنانه .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، قال : قال مجاهد الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : شدة خروج أسنانه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : شدّة .
وقال آخرون : معنى ذلك أنه خُلق منتصبا معتدل القامة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في انتصاب ، ويقال : في شدّة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا حرمي بن عمارة ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني عُمارة ، عن عكرِمة ، في قوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في انتصاب ، يعني القامة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : منتصبا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، جميعا عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبد الله بن شَدّاد ، في قوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : معتدلاً بالقامة ، قال أبو صالح : معتدلاً في القامة .
حدثنا يحيى بن داود الواسطيّ ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح خَلَقْنا الإنْسانَ في كَبَدٍ قال : قائما .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : فِي كَبَدٍ خُلِق منتصبا على رجلين ، لم تخلق دابة على خلقه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مُغيرة ، عن مجاهد لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في صَعَد .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنه خُلق في السماء . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في السماء ، يسمى ذلك الكَبَد .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : قول من قال : معنى ذلك أنه خلق يُكابد الأمور ويُعالجها ، فقوله : فِي كَبَدٍ معناه : في شدّة .
وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب ، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب من معاني الكَبَد ومنه قول لبيد بن ربيعة :
عَيْنِ هِلاّ بَكَيْتِ أرْبَدَ إذْ *** قُمْنا وَقامَ الخُصُوم فِي كَبَدِ
وجملة : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } جواب القسم وهو الغرض من السورة .
والإِنسان يجوز أن يراد به الجنس وهو الأظهر وقولُ جمهور المفسرين ، فالتعريف فيه تعريف الجنس ، ويكون المراد به خصوص أهل الشرك لأن قوله : { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } [ البلد : 5 ] إلى آخر الآيات لا يليق إلا بأحوال غير المؤمنين ، فالعموم عموم عرفي ، أي الإنسان في عُرف الناس يومئذ ، ولم يكن المسلمون إلا نفراً قليلاً ولذلك كثر في القرآن إطلاق الإِنسان مراداً به الكافرون من الناس .
ويجوز أن يراد به إنسان معيّن ، فالتعريف تعريف العهد ، فعن الكلبي أنه أبو الأشدّ ويقال : أبو الأشَدّيْن واسمه أُسَيْد بن كَلْدَةَ الجُمَحِي كان معروفاً بالقوّة والشدة يجعل الأديم العُكَاظي تحت قدميه فيقول : من أزالني فله كذا . فيجذبه عشرةُ رجال حتى يمزَّق الأديم ولا تزول قدماه ، وكان شديد الكفر والعداوة للنبيء صلى الله عليه وسلم فنزل فيه : { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } [ البلد : 5 ] وقيل : هو الوليد بن المغيرة ، وقيل : هو أبو جهل . وعن مقاتل : نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل ، زعم أنه أنفق مالاً على إفساد أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : هو عمرو بن عبد ودّ الذي اقتحم الخندق في يوم الأحزاب ليدخل المدينة فقتله علي بن أبي طالب خلْف الخندق .
وليس لهذه الأقوال شاهد من النقل الصحيح ولا يلائمها القَسَم ولا السياق .
والخلق : إيجاد ما لم يكن موجوداً ، ويطلق على إيجاد حالة لها أثر قويّ في الذات كقوله تعالى : { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق } [ الزمر : 6 ] وقوله : { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير } [ المائدة : 110 ] . فهو جعل يغير ذات الشيء .
والكَبَد بفتحتين : التعب والشدة ، وقد تعددت أقوال المفسرين في تقرير المراد بالكَبَد ، ولم يعرج واحد منهم على ربط المناسبة بين ما يفسِّر به الكَبَد وبين السياق المسوق له الكلام وافتتاحِه بالقسم المشعر بالتأكيد وتوقع الإنكار ، حتى كأنَّهم بصدد تفسير كلمة مفردة ليست واقعة في كلام يجب التِئامُه ، ويَحِق وِءَامُه .
وقد غضُّوا النظر عن موقع فِعل { خلقنا } على تفسيرهم الكبد إذ يكون فعل { خلقنا } كمعذرة للإِنسان الكافر في ملازمة الكَبد له إذ هو مخلوق فيه . وذلك يحط من شدة التوبيخ والذم ، فالذي يلتئم مع السياق ويناسب القسم أن الكبد التعب الذي يلازم أصحاب الشرك من اعتقادهم تعدد الآلهة . واضطرابُ رأيهم في الجمع بين ادعاء الشركاء لله تعالى وبين توجّههم إلى الله بطلب الرزق وبطلب النجاة إذا أصابهم ضر . ومن إحالتهم البعث بعد الموت مع اعترافهم بالخلق الأول فقوله : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } دليل مقصوداً وحده بل هو توطئة لقوله : { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } [ البلد : 5 ] . والمقصود إثبات إعادة خلق الإِنسان بعد الموت للبعثِ والجزاء الذي أنكروه وابتدأهم القرآن بإثباته في سُور كثيرة من السور الأولى .
فوزان هذا التمهيد وزان التمهيد بقوله : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين } [ التين : 4 ، 5 ] بعد القسم بقوله : { التين والزيتون } [ التين : 1 ] الخ .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : "لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ" وهذا هو جواب القسم ...
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم : معناه : لقد خلقنا ابن آدم في شدّة وعناء ونصب ...
وقال بعضهم : خُلِق خَلْقا لم نَخْلق خلقَه شيئا ...عن ابن عباس ، قال : في شدّة معيشته ، وحمله وحياته ، ونبات أسنانه...
وقال آخرون : معنى ذلك أنه خُلق منتصبا معتدل القامة ...
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنه خُلق في السماء ...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : قول من قال : معنى ذلك أنه خلق يُكابد الأمور ويُعالجها ، فقوله : فِي كَبَدٍ معناه : في شدّة .
وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب ، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب من معاني الكَبَد ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى : {لقد خلقنا الإنسان في كبد} قال بعضهم : الكبد: الانتصاب... وقال بعضهم : الكبد الشدة والمعاناة ...
ولقائل أن يقول : أي حكمة في ذكر هذا وفي تأكيده بالقسم ؟ وكل يعلم أنه خلق كذلك .
فجوابه أن في ذكر هذا إبانة أنهم لم يخلقوا عبثا باطلا ، بل خلقهم الله تعالى ليمتحنهم ، ويأمرهم بالعبادة كما قال : { وما خلقت الجن والإنسان إلا ليعبدون } [ الذريات : 56 ] .
فإن كان التأويل منصرفا إلى الشدة والمعاناة فتأويله أنه خلقهم الله تعالى ليكابدوا للمعاش والمعاد جميعا ، وخلقهم للشدة ليعتبروا ، ويتذكروا . وإن كان منصرفا إلى الانتصاب ففيه تعريف لعظم نعم الله تعالى عليهم من غير أن كانوا مستوجبين لذلك ليستأدي منهم الشكر بذلك .....
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فالكبد في اللغة: شدة الأمر ... والإنسان مخلوق في شدة أمر بكونه في الرحم، ثم في القماط والرباط، ثم على خطر عظيم عند بلوغه حال التكليف ، فينبغي له أن يعلم ان الدنيا دار كد ومشقة ، وأن الجنة هي دار الراحة والنعمة . ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والكبد : أصله من قولك : كبد الرجل كبداً ، فهو أكبد : إذا وجعت كبده وانتفخت ، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة .
قوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } :... في الكبد وجوه؛
( أحدها ) : قال صاحب «الكشاف » : إن الكبد أصله من قولك كبد الرجل كبدا فهو كبد إذا وجعت كبده وانتفخت ، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة ... وقال آخرون : الكبد شدة الأمر ومنه تكبد اللبن إذا غلظ واشتد ، ومنه الكبد لأنه دم يغلظ ويشتد ، والفرق بين القولين أن الأول جعل اسم الكبد موضوعا للكبد ، ثم اشتقت منه الشدة . وفي الثاني جعل اللفظ موضوعا للشدة والغلظ ، ثم اشتق منه اسم العضو.
( الوجه الثاني ) : أن الكبد هو الاستواء والاستقامة.
( الوجه الثالث ) : أن الكبد شدة الخلق والقوة ، إذا عرفت هذا فنقول أما على الوجه الأول فيحتمل أن يكون المراد شدائد الدنيا فقط ، وأن يكون المراد شدائد التكاليف فقط ، وأن يكون المراد شدائد الآخرة فقط ، وأن يكون المراد كل ذلك .
أما الأول : فقوله : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } أي خلقناه أطوارا كلها شدة ومشقة ، تارة في بطن الأم ، ثم زمان الإرضاع ، ثم إذا بلغ ففي الكد في تحصيل المعاش ، ثم بعد ذلك الموت .
وأما الثاني : وهو الكبد في الدين ، فقال الحسن : يكابد الشكر على السراء ، والصبر على الضراء ، ويكابد المحن في أداء العبادات .
وأما الثالث : وهو الآخرة ، فالموت ومساءلة الملك وظلمة القبر ، ثم البعث والعرض على الله إلى أن يستقر به القرار إما في الجنة وإما في النار .
وأما الرابع : وهو يكون اللفظ محمولا على الكل فهو الحق...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
وهو تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من قريش ....
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ لقد خلقنا } أي بما لنا من القدرة التامة والعظمة التي لا تضاهى { الإنسان } أي هذا النوع { في كبد } أي شدة شديدة ومشقة عظيمة محيطة به إحاطة الظرف بالمظروف ، لو وكله سبحانه وتعالى في شيء منها إلى نفسه هلك ، ولولا هذه البلايا لادعى ما لا يليق به من عظيم المزايا ، وقد ادعى بعضهم مع ذلك الإلهية وبعضهم الاتحاد برب العباد - تعالى الله عن قولهم الواضح الفساد ، بما قرنه به سبحانه وتعالى من الموت والمرض وسائر الأنكاد ...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
والسر في التنبيه إلى أن الإنسان قد خلق في عناء- الرغبة في تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحضه على عمل الخير والمثابرة عليه ، وألا يعبأ بما يلاقيه من الشدائد والمشاق ، وأن ذلك لا يخلو منه إنسان . إلى ما فيه من تنبيه المغرورين الذين يشعرون بالقوة في أنفسهم ، ويظنون أنهم بها يستطيعون مصارعة الأقران ، وكأنه يقول لهم : لا تتمادوا في غروركم ، ولا تستمروا على صلفكم وكبريائكم ، فإن الإنسان لا يخلو من العناء في تصريف شؤونه وشؤون ذويه ، ومهما عظمت منزلته ، وقويت شكيمته . فهو لا يستطيع الخلاص من مشاق الحياة . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يقسم هذا القسم على حقيقة ثابتة في حياة الكائن الإنساني :
( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) . .
في مكابدة ومشقة ، وجهد وكد ، وكفاح وكدح . . كما قال في السورة الأخرى : ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) . .
الخلية الأولى لا تستقر في الرحم حتى تبدأ في الكبد والكدح والنصب لتوفر لنفسها الظروف الملائمة للحياة والغذاء - بإذن ربها - وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج ، فتذوق من المخاض - إلى جانب ما تذوقه الوالدة - ما تذوق . وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضغط ودفع حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم !
ومنذ هذه اللحظة يبدأ الجهد الأشق والكبد الأمر . يبدأ الجنين ليتنفس هذا الهواء الذي لا عهد له به ، ويفتح فمه ورئتيه لأول مرة ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية ! وتبدأ دورته الهضمية ودورته الدموية في العمل على غير عادة ! ويعاني في إخراج الفضلات حتى يروض أمعاءه على هذا العمل الجديد ! وكل خطوة بعد ذلك كبد ، وكل حركة بعد ذلك كبد . والذي يلاحظ الوليد عندما يهم بالحبو وعندما يهم بالمشي يدرك كم يبذل من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة .
وعند بروز الأسنان كبد . وعند انتصاب القامة كبد . وعند الخطو الثابت كبد . وعند التعلم كبد . وعند التفكر كبد . وفي كل تجربة جديدة كبد كتجربة الحبو والمشي سواء !
ثم تفترق الطرق ، وتتنوع المشاق ؛ هذا يكدح بعضلاته . وهذا يكدح بفكره . وهذا يكدح بروحه . وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء . وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين وعشرة آلاف . . . وهذا يكدح لملك أو جاه ،
وهذا يكدح في سبيل الله . وهذا يكدح لشهوة ونزوة . وهذا يكدح لعقيدة ودعوة . وهذا يكدح إلى النار . وهذا يكدح إلى الجنة . . والكل يحمل حمله ويصعد الطريق كادحا إلى ربه فيلقاه ! وهناك يكون الكبد الأكبر للأشقياء . وتكون الراحة الكبرى للسعداء .
إنه الكبد طبيعة الحياة الدنيا . تختلف أشكاله وأسبابه . ولكنه هو الكبد في النهاية . فأخسر الخاسرين هو من يعاني كبد الحياة الدنيا لينتهي إلى الكبد الأشق الأمر في الأخرى . وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كبد الحياة ، وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال الله .
على أن في الأرض ذاتها بعض الجزاء على ألوان الكدح والعناء . إن الذي يكدح للأمر الجليل ليس كالذي يكدح للأمر الحقير . ليس مثله طمأنينة بال وارتياحا للبذل ، واسترواحا بالتضحية ، فالذي يكدح وهو طليق من أثقال الطين ، أو للانطلاق من هذه الأثقال ، ليس كالذي يكدح ليغوص في الوحل ويلصق بالأرض كالحشرات والديدان ! والذي يموت في سبيل دعوة ليس كالذي يموت في سبيل نزوة . . ليس مثله في خاصة شعوره بالجهد والكبد الذي يلقاه .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } جواب القسم وهو الغرض من السورة .
والإِنسان يجوز أن يراد به الجنس وهو الأظهر وقولُ جمهور المفسرين ، فالتعريف فيه تعريف الجنس ، ويكون المراد به خصوص أهل الشرك لأن قوله : { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } [ البلد : 5 ] إلى آخر الآيات لا يليق إلا بأحوال غير المؤمنين ، فالعموم عموم عرفي ، أي الإنسان في عُرف الناس يومئذ ، ولم يكن المسلمون إلا نفراً قليلاً ولذلك كثر في القرآن إطلاق الإِنسان مراداً به الكافرون من الناس .
ويجوز أن يراد به إنسان معيّن ، فالتعريف تعريف العهد ، فعن الكلبي أنه أبو الأشدّ ويقال : أبو الأشَدّيْن واسمه أُسَيْد بن كَلْدَةَ الجُمَحِي كان معروفاً بالقوّة والشدة يجعل الأديم العُكَاظي تحت قدميه فيقول : من أزالني فله كذا . فيجذبه عشرةُ رجال حتى يمزَّق الأديم ولا تزول قدماه ، وكان شديد الكفر والعداوة للنبيء صلى الله عليه وسلم فنزل فيه : { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } [ البلد : 5 ] وقيل : هو الوليد بن المغيرة ، وقيل : هو أبو جهل . وعن مقاتل : نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل ، زعم أنه أنفق مالاً على إفساد أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل : هو عمرو بن عبد ودّ الذي اقتحم الخندق في يوم الأحزاب ليدخل المدينة فقتله علي بن أبي طالب خلْف الخندق .
وليس لهذه الأقوال شاهد من النقل الصحيح ولا يلائمها القَسَم ولا السياق .
والخلق : إيجاد ما لم يكن موجوداً ، ويطلق على إيجاد حالة لها أثر قويّ في الذات كقوله تعالى : { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق } [ الزمر : 6 ] وقوله : { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير } [ المائدة : 110 ] . فهو جعل يغير ذات الشيء .
والكَبَد بفتحتين : التعب والشدة ، وقد تعددت أقوال المفسرين في تقرير المراد بالكَبَد ، ولم يعرج واحد منهم على ربط المناسبة بين ما يفسِّر به الكَبَد وبين السياق المسوق له الكلام وافتتاحِه بالقسم المشعر بالتأكيد وتوقع الإنكار ، حتى كأنَّهم بصدد تفسير كلمة مفردة ليست واقعة في كلام يجب التِئامُه ، ويَحِق وِءَامُه .
وقد غضُّوا النظر عن موقع فِعل { خلقنا } على تفسيرهم الكبد إذ يكون فعل { خلقنا } كمعذرة للإِنسان الكافر في ملازمة الكَبد له إذ هو مخلوق فيه . وذلك يحط من شدة التوبيخ والذم ، فالذي يلتئم مع السياق ويناسب القسم أن الكبد التعب الذي يلازم أصحاب الشرك من اعتقادهم تعدد الآلهة . واضطرابُ رأيهم في الجمع بين ادعاء الشركاء لله تعالى وبين توجّههم إلى الله بطلب الرزق وبطلب النجاة إذا أصابهم ضر . ومن إحالتهم البعث بعد الموت مع اعترافهم بالخلق الأول فقوله : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } دليل مقصوداً وحده بل هو توطئة لقوله : { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } [ البلد : 5 ] . والمقصود إثبات إعادة خلق الإِنسان بعد الموت للبعثِ والجزاء الذي أنكروه وابتدأهم القرآن بإثباته في سُور كثيرة من السور الأولى .
فوزان هذا التمهيد وزان التمهيد بقوله : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين } [ التين : 4 ، 5 ] بعد القسم بقوله : { التين والزيتون } [ التين : 1 ] الخ .