وقد أجاب الله - تعالى - له طلبه فقال : { فإنك } يا إبليس من جملة { المنظرين } أى الذين أخرت موتهم { إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } وهو يوم القيامة الذي استأثرت بعلم وقته ، والذى وصفت أحواله للناس ، كى يستعدوا له بالإِيمان والعمل الصالح .
ويصح أن يكون المراد بالوقت المعلوم : وقت النفخة الأولى حين يموت كل الخلائق ويموت هو معهم .
قال ابن كثير : أجابه الله - تعالى - إلى ما سأل ، لما له في ذلك من الحكمة والإِرادة والمشيئة التي لا تخالف . ولا تمانع ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب .
وقال بعض العلماء : وهذا الإِنظار رمز إلهى على أن ناموس الشر لا ينقضى من عالم الحياة الدنيا ، وأن نظامها قائم على التصارع بين الخير والشر ، وبين الأخيار والأشرار .
قال - تعالى - : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ . . . } ولذلك لم يستغن نظام العالم عن إقامة قوانين العدل والصلاح ، وإيداعها إلى الكفاة لتنفيذها والذود عنها .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِي إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَىَ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } .
يقول تعالى ذكره : قال إبليس : ربّ فإذ أخرجتني من السموات ولعنتني ، فأخرّني إلى يوم تبعث خلقك من قبورهم فتحشرهم لموقف القيامة . قال الله له : فإنك ممن أُخّر هلاكه إلى يوم الوقت المعلوم لهلاك جميع خلقي ، وذلك حين لا يبقى على الأرض من بني آدم دَيّارٌ .
{ إلى يوم الوقت المعلوم } المسمى فيه أجلك عند الله ، أو انقراض الناس كلهم وهو النفخة الأولى عند الجمهور ، ويجوز أن يكون المراد بالأيام الثلاثة يوم القيامة ، واختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات فعبر عنه أولا بيوم الجزاء لما عرفته وثانيا بيوم البعث ، إذ به يحصل العلم بانقطاع التكليف واليأس عن التضليل ، وثالثا بالمعلوم لوقوعه في الكلامين ، ولا يلزم من ذلك أن لا يموت فلعله يموت أول اليوم ويبعث مع الخلائق في تضاعيفه ، وهذه المخاطبة وإن لم تكن بواسطة لم تدل على منصب إبليس لأن خطاب الله له على سبيل الإهانة والإذلال .
الضمير في { منها } للجنة ، وإن لم يجر ذكرها في القصة تتضمنها ، ويحتمل أن يعود الضمير على ضيفة الملائكة ، وال { رجيم } المشتوم أي المرجوم بالقول والشتم ، و { يوم الدين } يوم الجزاء ، ومنه قول الشاعر :
ولم يبق سوى العدوا . . . ن دناهم كما دانوا{[7170]}
وسأل إبليس «النظرة إلى يوم البعث » فأعطاه الله إياها إلى «وقت معلوم » ، واختلف فيه فقيل إلى يوم القيامة أي يكون آخر من يموت من الخلق ، قاله الطبري وغيره وقيل إلى وقت غير معين ولا مرسوم بقيامة ولا غيرها ، بل علمه عند الله وحده ، وقيل بل أمره كان إلى يوم بدر وأنه قتل يوم بدر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وإن كان روي فهو ضعيف ، والمنظر المؤخر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إلى يوم الوقت المعلوم}، يعني: إلى أجل موقوت، وهي النفخة الأولى، وإنما أراد عدو الله الأجل إلى يوم يبعثون؛ لئلا يذوق الموت؛ لأنه قد علم أنه لا يموت بعد البعث.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 36]
قال إبليس: ربّ فإذ أخرجتني من السموات ولعنتني، فأخرّني إلى يوم تبعث خلقك من قبورهم فتحشرهم لموقف القيامة. قال الله له: فإنك ممن أُخّر هلاكه إلى يوم الوقت المعلوم لهلاك جميع خلقي، وذلك حين لا يبقى على الأرض من بني آدم دَيّارٌ.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{إلى يوم الوقت المعلوم} فلم يجبه إلى البقاء.
أحدهما: معلوم عند الله تعالى، مجهول عند إبليس.
الثاني: إلى يوم النفخة الأولى يموت إبليس...
وليس هذا من الله تعالى إجابة لسؤاله، لأن الإجابة تكرمة، ولكن زيادة في بلائه، ويعرف أنه لا يضر بفعله غير نفسه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقيل له "إلى يوم الوقت المعلوم "الذي هو آخر أيام التكليف. وقال البلخي: أراد بذلك إلى يوم الوقت المعلوم، الذي قدر الله أجله فيه.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
يعني: المعلوم بموت الخلائق فيه، فأراد أن يذيقه ألم الموت قبل أن يذيقه العذاب الدائم في جهنم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فقال: {إلى} ولما كان اليوم ما يتم فيه أمر ظاهر، وكانت الأيام الهائلة ثلاثة: زمان موت الأحياء الخارجين من دار الخلد، ثم بعث الأموات، ثم الفصل بينهم بإحلال كل فريق في داره، قال: {يوم} ولما كان الوقت أدل ألفاظ الزمان على الأجل، قال: {الوقت} ولما كان قد دبج في سؤاله هذا تدبيجاً أوهم تجاهله بتحتم الموت على كل مكلف، بين تعالى أنه مما لا يجهل فقال: {المعلوم} أي الذي قدرت عليك الموت فيه، وهو النفخة الأولى وما يتبعها من موت كل مخلوق لم يكن في دار الخلد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عبر عن يوم الدين ب "يوم يبعثون "تمهيداً لما عقد عليه العزم من إغواء البشر، فأراد الإنظار إلى آخر مدة وجود نوع الإنسان في الدنيا. وخلق الله فيه حب النظرة التي قدرها الله له وخلقه لأجلها وأجل آثارها ليحمل أوزار تبعة ذلك بسبب كسبه واختياره تلك الحالة، فإن ذلك الكسب والاختيار هو الذي يجعله ملائماً لما خلق له، كما أومأ إلى ذلك البيان النبوي بقوله: « كل ميسر لما خلق له». وضمير {يبعثون} للبشر المعلومين من تركيب خلق آدم عليه السلام، وأنه يكون له نسل ولا سيما حيث خلقت زوجه حينئذٍ فإن ذلك يقتضي أن يكون منهما نسل. وعبر عن يوم البعث ب {يوم الوقت المعلوم} تفنّناً تفادياً من إعادة اللفظ قضاء لحق حسن النظم، ولما فيه من التعليم بأن الله يعلم ذلك الأجل. فالمراد: المعلوم لدينا. ويجوز أن يراد المعلوم للناس أيضاً علماً إجمالياً. وفيه تعريض بأن من لم يؤمنوا بذلك اليوم من الناس لا يعبأ بهم فهم كالعدم. وهذا الإنظار رمز إلهي على أن ناموس الشر لا ينقضي من عالم الحياة الدنيا وأن نظامها قائم على التصارع بين الخير والشر والأخيار والأشرار، قال تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل} [سورة الأنبياء: 18] وقال: {كذلك يضرب الله الحقّ والباطل} [سورة الرعد: 17]. فلذلك لم يستغن نظام العالم عن إقامة قوانين العدل والصلاح وإيداعها إلى الكفاة لتنفيذها والذّود عنها. وعطفت مقولات هذه الأقوال بالفاء لأن كل قول منها أثاره الكلام الذي قبله فتفرّع عنه.