ثم أمره - سبحانه - للمرة الثانية أن يذكرهم بنعمة أخرى فقال { قُلْ هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } . أي : وقل لهم - أيها الرسول الكريم - الرحمن - تعالى - وحده { هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض } .
أي : هو الذي خلقكم وبثكم وكثركم في الأرض ، إذ الذرء معناه : الإِكثار من الموجود . .
وقوله : { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } بيان لمصيرهم بعد انتهاء آجالهم في هذه الدنيا .
أي : وإليه وحده - لا إلى غيره - يكون مرجعكم للحساب والجزاء يوم القيامة .
ثم يذكرهم أن الله لم ينشئ البشر ويمنحهم هذه الخصائص عبثا ولا جزافا لغير قصد ولا غاية . إنما هي فرصة الحياة للابتلاء . ثم الجزاء في يوم الجزاء :
( قل : هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ) . .
والذرء : الإكثار . ويحمل كذلك معنى الانتشار . والحشر : الجمع بعد النشر في الأرجاء . وهما حركتان متقابلتان من الناحية التصورية ، تقابلهما من الناحية المعنوية . ذلك مشهد للإكثار من الخلق ونشرهم أو نثرهم في الأرض . وهذا مشهد لجمعهم منها وحشرهم بعد النشر والنثر ! ويجمعهما السياق في آية واحدة ، ليتقابل المشهدان في الحس والتصور على طريقة القرآن . وليتذكر البشر وهم منتشرون في الأرض أن هناك غاية هم صائرون إليها ، هي الجمع والحشر . وأن هناك أمرا وراء هذا ، ووراء الابتلاء بالموت والحياة .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَىَ هََذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد ، الله الّذِي ذَرأكُمْ فِي الأرْضِ ، يقول : الله الذي خلقكم في الأرض وإلَيْهِ تُحْشَرُونَ ، يقول : وإلى الله تحشرون ، فتجمعون من قبوركم لموقف الحساب ، وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، يقول جلّ ثناؤه : ويقول المشركون : متى يكون ما تعدنا من الحشر إلى الله ، إن كنتم صادقين في وعدكم إيانا ما تعدوننا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل هو الذي ذرأكم في الأرض} يعني خلقكم في الأرض، {وإليه} يعني إلى الله {تحشرون} في الآخرة، فيجزيكم بأعمالكم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل يا محمد: "الله الّذِي ذَرأكُمْ فِي الأرْضِ"، يقول: الله الذي خلقكم في الأرض "وإلَيْهِ تُحْشَرُونَ"، يقول: وإلى الله تحشرون، فتجمعون من قبوركم لموقف الحساب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: مما قد تنوزع فيه، وهو قوله: {وإليه تحشرون} فإن بعض الكفرة ينكرون الحشر والبعث.
والثاني: مما لم يقع فيه التنازع، وهو قوله: {هو الذي ذرأكم في الأرض}. ثم إن الله تعالى جعل ابتداء الخلق دلالة القدرة على الإعادة بقوله: {قال من يحي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم}] [يس: 78 و79]. وإذا جعل الابتداء دليل الإعادة، لزمهم أن يستدلوا به، فهو وإن ذكره على وجه الاحتجاج، ففيه موضع الاحتجاج عليهم. وقوله تعالى: {في الأرض} فيه إخبار أنه خلقهم في الأرض، ليشاهد بعضهم خلق بعض في الابتداء، فيعلموا أنهم لم يكونوا على الحالة التي هم عليها للحال، بل كانوا نطفا وعلقا وأطفالا، إلى أن انتهوا إلى الحالة التي هم عليها. فإذا تقرر عندهم أمر الابتداء، أوجب لهم ذلك علما بالقدرة على الإعادة. ويكون قوله: {في الأرض} أي أنشأكم، وجعل لكم مساكن في الأرض، بسطها لكم لتنتفعوا بها، وجعلها لكم كفاية، فيكون فيه تذكيره النعمة والقدرة والسلطان.
وقوله تعالى: {ذرأكم} أي كثركم من أصل واحد، كما قال تعالى: {خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} [النساء: 1]. ومعلوم أن الخلق على كثرتهم، لم يكونوا في نفس واحدة، ومن قدر على خلق الأنفس من نفس واحدة، قادر على إعادة ما سبق كونه...
البرهان الثالث [على كمال قدرته جل وعز]: قوله تعالى: {قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون}.
اعلم أنه تعالى استدل بأحوال الحيوانات (أولا) ثم بصفات الإنسان (ثانيا) وهي السمع والبصر والعقل، ثم بحدوث ذاته (ثالثا) وهو قوله: {هو الذي ذرأكم في الأرض}... واعلم أن الشروع في هذه الدلائل إنما كان لبيان صحة الحشر والنشر ليثبت ما ادعاه من الابتلاء في قوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور} ثم لأجل إثبات هذا المطلوب، ذكر وجوها من الدلائل على قدرته، ثم ختمها بقوله: {قل هو الذي ذرأكم في الأرض}. ولما كانت القدرة على الخلق ابتداء توجب القدرة على الإعادة لا جرم قال بعده: {وإليه تحشرون} فبين بهذا أن جميع ما تقدم ذكره من الدلائل إنما كان لإثبات هذا المطلوب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قل هو} أي وحده {الذي ذرأكم} أي خلقكم وبثكم، ونشركم وكثركم، وأنشأكم بعد ما كنتم كالذر أطفالاً ضعفاء، ثم قواكم ثم جعلكم شيباً ضعفاء، وأسكنكم الغضب والذعر واللجاج، الحامل لكم على الولوع بما يلجىء إليه الطباع المثيرة، {في الأرض} التي تقدم أنه ذللها لكم، ورزقكم منها النبات الذي تقدم أن إبداءه منها، ثم رده إليها و إفناءه فيها، ثم إعادته كما كان، بعد أن صار رفاتاً وشيئا فانياً مماتاً، دليل على القدرة على البعث، لا فرق في ذلك بينه وبينكم أصلاً، فكان منه البدء {وإليه} وحده {تحشرون} شيئاً فشيئاً إلى البرزخ، و دفعة واحدة يوم البعث، على أيسر وجه بمن أراد من عباده كرهاً منكم، كما كان أمركم في الدنيا، فإنه لم يكن إلى الإنسان منكم أحب من الدعة والسكون، فكأنه سبحانه يضطره بما أودعه من الطبائع المتضادة، وأثار له من الأسباب في طلب رزقه، وغير ذلك من أمره، إلى السعي إلى حيث يكره، فكما أنه قدر على ذلك منكم في الابتداء، فهو يقدر على مثله في الانتهاء، ليحكم بينكم ويجازي كلاًّ على عمله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يذكرهم أن الله لم ينشئ البشر ويمنحهم هذه الخصائص عبثا ولا جزافا لغير قصد ولا غاية. إنما هي فرصة الحياة للابتلاء. ثم الجزاء في يوم الجزاء: (قل: هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون).. والذرء: الإكثار. ويحمل كذلك معنى الانتشار. والحشر: الجمع بعد النشر في الأرجاء. وهما حركتان متقابلتان من الناحية التصورية، تقابلهما من الناحية المعنوية. ذلك مشهد للإكثار من الخلق ونشرهم أو نثرهم في الأرض. وهذا مشهد لجمعهم منها وحشرهم بعد النشر والنثر! ويجمعهما السياق في آية واحدة، ليتقابل المشهدان في الحس والتصور على طريقة القرآن. وليتذكر البشر وهم منتشرون في الأرض أن هناك غاية هم صائرون إليها، هي الجمع والحشر. وأن هناك أمرا وراء هذا، ووراء الابتلاء بالموت والحياة...