قال قتادة بن دِعَامة : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا أشك ولا أسأل " {[14423]}
وكذا قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وهذا فيه تثبيت{[14424]} للأمة ، وإعلام لهم أن صفة نبيهم صلى الله عليه وسلم موجودة{[14425]} في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } الآية [ الأعراف : 157 ] . ثم مع هذا العلم يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم ، يلبسون ذلك ويحرفونه ويبدلونه ، ولا يؤمنون به مع قيام الحجة عليهم ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } أي : لا يؤمنون إيمانا ينفعهم ، بل حين لا ينفع نفسًا إيمانها ؛ ولهذا لما دعا موسى ، عليه السلام ، على فرعون وملئه قال : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 88 ] ، كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ الأنعام : 111 ]
كان تفريع { فلا تكونن من الممترين } تعريضاً أيضاً بالمشركين بأنهم بحيث يُحذر الكون منهم .
والامتراء : الشك فيما لا شبهة للشك فيه . فهو أخص من الشك .
وكذلك عطف { ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله } وهو أصرح في التعريض بهم { فتكون من الخاسرين } . وهذا يقتضي أنهم خاسرون . ونظيره { لئن أشركت ليحبطنّ عملُك ولتكوننّ من الخاسرين } [ الزمر : 65 ] ، وحاصل المعنى : فإن كنتم شاكين في صدق ما أنزلنا على محمد مما أصاب المكذبين قبلَكم فاسألوا أهل الكتاب يخبروكم بأن ذلك صدق ، لقد جاءكم الحق من رب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تكونوا شاكّين ولا تكذبوا بآيات الله فتكونوا خاسرين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تكوننّ يا محمد من الذين كذّبوا بحجج الله وأدلته، فتكون ممن غبن حظه وباع رحمة الله ورضاه بسخطه وعقابه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هو ما ذكرنا أنه يريد بالخطاب غيره، وإلا لا يحتمل أن يكون رسول الله من الشاكين أو يكون من الذين يكذبون بآيات الله أو يكون من الخاسرين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ما كان منهياً عنه، وكان قبيحاً فبالشرع كان قبيحاً، فلا بدّ من ورود الأمر به حتى تكون منه طاعة وعبادة. وإنما لم يَجُزْ في صفته -صلى الله عليه وسلم- التكذيبُ بآياتِ الله؛ لأنه نُهِيَ لا لكونه قبيحاً بالعقل حتى يقال كيف نُهِيَ عنه وكان ذلك بعيداً منه؟
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله} أي فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك والتكذيب بآيات الله. ويجوز أن يكون على طريقة التهييج والإلهاب، كقوله: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايات الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} [القصص: 87] ولزيادة التثبيت والعصمة، ولذلك قال عليه السلام عند نزوله:"لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق" وعن ابن عباس رضي الله عنه: لا والله ما شكّ طرفة عين، ولا سأل أحداً منهم، وقيل: خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد خطاب أمته. فإن كنتم في شكّ مما أنزلنا إليكم، لقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} [النساء: 174] وقيل: الخطاب للسامع ممن يجوز عليه الشكّ، كقول العرب: إذا عزّ أخوك فهن. وقيل: «إن» للنفي، أي: فما كنت في شك فاسأل، يعني: لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك، ولكن لتزداد يقيناً، كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال القاضي أبو محمد: ولهذا فائدة، ليس في مخاطبة الناس به وذلك شدة التخويف لأنه إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من مثل هذا فغيره من الناس أولى أن يحذر ويتقي على نفسه.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
والمرادُ به إعلامُ أن التكذيبَ من القبح والمحذوريةِ بحيث ينبغي أن يُنهى عنه من لا يُتصورُ إمكانُ صدورِه عنه فكيف بمن يمكن اتصافُه به، وفيه قطعٌ لأطماع الكفرة {منَ الخاسرين} أنفساً وأعمالاً.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} يعني أن كل من كان من المكذبين فهو من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم بالحرمان من الإيمان وما يتبعه من سعادة الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وإن فرض أنه أول المؤمنين محمد رسول الله وخاتم النبيين ورحمته للعالمين، وأن الممترين الشاكين فيما أنزل إليك كالمكذبين بآيات الله جحودا بها وعنادا، كلاهما سواء في الخسران المذكور لحرمان الجميع من الاهتداء بها وما له من ربح سعادة الدنيا والآخرة. وهذا النوع من الأمر والنهي للمؤتمر المنتهي والمراد غيره على سبيل التعريض أبلغ من قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ* قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون} [سبأ: 24]، ولكل منهما موقع وتأثير خاص في استمالة الكافرين إلى التأمل والتفكر في مضمون الدعوة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وحاصل هذا أن الله نهى عن شيئين: الشك في هذا القرآن والامتراء فيه. وأشد من ذلك، التكذيب به، وهو آيات الله البينات التي لا تقبل التكذيب بوجه، ورتب على هذا الخسار، وهو عدم الربح أصلاً، وذلك بفوات الثواب في الدنيا والآخرة، وحصول العقاب في الدنيا والآخرة، والنهي عن الشيء أمر بضده، فيكون أمرًا بالتصديق التام بالقرآن، وطمأنينة القلب إليه، والإقبال عليه، علمًا وعملاً. فبذلك يكون العبد من الرابحين الذين أدركوا أجل المطالب، وأفضل الرغائب، وأتم المناقب، وانتفى عنهم الخسار.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
لقد جاء قوله تعالى بعد النهي عن الامتراء. وهذه الجملة القرآنية معطوفة على قوله تعالى: {فلا تكونن من الممترين} والنهي كالنهي السابق مؤكد بنون التوكيد الثقيلة وهو موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بظاهر القول، وموجه للناس كافة، ومع ذلك فيه إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم سواسية في الخطاب بالحق مثلهم، وفي قوله تعالى: {ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله} نهي عن الامتراء، وأن الامتراء بعد الإيمان يؤدي إلى تكذيب آيات الله تعالى، ولذا نهى عنه صلى الله عليه وسلم بسياق القول وظاهر الخطاب، النهي للناس أجمعين، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم أسوة لهم في الخطاب كما هو أسوة لهم في الإيمان، والنهي الموجه له يكون بالأولى نهي لغيره، ذلك ليفتشوا قلوبهم ويبعدوها عن الامتراء في الحق حتى لا يؤدي ذلك إلى التكذيب بآيات الله.
{ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله} في قوله تعالى نهي مؤكد لأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم في صفوف الكثرة الضالة التي خير منها القلة المؤمنة، فلا يقاس الحق بالعدد والكثرة ولكن بالإيمان وقوة الدليل، ونكرر أن الخطاب للناس فلا يصح أن ينساق أحد وراء الكثرة المبطلة تاركا القلة المحقة، وعبر سبحانه بقوله تعالى {كذبوا بآيات الله} لبيان أن صلة الموصول سبب لانغمارهم في الضلالة، إذ الآيات الكونية واضحة وآياته القرآنية تحدي بها العرب أن يأتوا بمثلها فعجزوا، وقد رتب الله تعالى على تكذيب الآيات الكونية والقرآنية الخسارة {فتكون من الخاسرين}، (الفاء) لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، أي أنه يترتب على تكذيب آيات الله أن تكون في صفوف الخاسرين الذين خسروا الإيمان، وهذا أساس الخسران فخسروا الإيمان باليوم الآخر وما فيه من جزاء بعد الحساب، وخسروا فزعموا أن الحياة الدنيا وحدها هي الحياة وهذا هو الخسران المبين.