ومن ثم يقف عند هذه الدرجة ليقول من هم أصحابها . . إنهم : ( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ) . . فهم عدد محدود . وفريق منتقى . كثرتهم في الأولين وقلتهم في الآخرين . واختلفت الروايات في من هم الأولون ومن هم الآخرون . فالقول الأول : إن الأولين هم السابقون إلى الإيمان ذوو الدرجة العالية فيه من الأمم السابقة قبل الإسلام . وإن الآخرين هم السابقون إلى الإسلام ذوو البلاء فيه . . والقول الثاني : إن الأولين والآخرين هم من أمة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] فالأولون من صدرها ، والآخرون من متأخريها . وهذا القول الثاني رجحه ابن كثير . وروى في ترجيحه للحسن وابن سيرين : قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد ابن الصباح ، حدثنا عفان ، حدثنا عبدالله بن أبي بكر المزني ، سمعت الحسن أتى على هذه الآية : ( والسابقون السابقون أولئك المقربون )فقال : " أما السابقون فقد مضوا ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين " . . ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا السري بن يحيى . قال : قرأ الحسن : ( والسابقون السابقون . أولئك المقربون في جنات النعيم . ثلة من الأولين ) . . قال : " ثلة ممن مضى من هذه الأمة " . . وحدثنا أبي ، حدثنا عبدالعزيز بن المغيرة المنقري ، حدثنا أبو هلال ، عن محمد بن سيرين ، أنه قال في هذه الآية : ( ثلة من الأولين ، وقليل من الآخرين ) . . قال : كانوا يقولون ، أو يرجون ، أن يكونوا كلهم من هذه الأمة .
الثلة : الجماعة والفرقة ، وهو يقع للقليل والكثير ، واللفظ في هذا الموضوع يعطي أن الجملة { من الأولين } أكثر من الجملة { من الآخرين } ، وهي التي عبر عنها بالقليل .
واختلف المتأولون في معنى ذلك ، فقال قوم حكى قولهم مكي : المراد بذلك الأنبياء ، لأنهم كانوا في صدر الدنيا أكثر عدداً ، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره : المراد السابقون من الأمم والسابقون من الأمة ، وذلك إما أن يقترن أصحاب الأنبياء بجموعهم إلى أصحاب محمد فأولئك أكثر لا محالة ، وإما أن يقترن أصحاب الأنبياء ومن سبق في أثناء الأمم إلى السابقين من جميع هذه الأمة فأولئك أكثر . وروي أن الصحابة حزنوا لقلة سابق هذه الأمة على هذا التأويل فنزلت : { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } [ الواقعة : 39-40 ] فرضوا{[10886]} . وروي عن عائشة أنها تأولت أن الفرقتين في أمة كل نبي وهي في الصدر { ثلة } وفي آخر الأمة { قليل } « . وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه : » الفرقتان في أمتي فسابق أول الأمة { ثلة } وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل ){[10887]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: جماعة من الأمم الماضية، وقليل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم الآخرون وقيل لهم الآخرون: لأنهم آخر الأمم" على سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ "يقول: فوق سُرر منسوجة، قد أدخل بعضها في بعض... وقيل: إنما قيل لها سُرر موضونة، لأنها مشبكة بالذهب والجوهر... عن ابن عباس "على سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ" قال: مرمولة بالذهب...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنها مصفوفة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله "ثلة من الأولين " فالثلة الجماعة. وأصله القطعة، من قولهم: ثل عرشه إذا قطع ملكه بهدم سريره. والثلة: القطعة من الناس... وتقديره: هم ثلة من الأولين، وهم قليل من الآخرين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
واختلف المتأولون في معنى ذلك، فقال قوم حكى قولهم مكي: المراد بذلك الأنبياء، لأنهم كانوا في صدر الدنيا أكثر عدداً، وروي عن عائشة أنها تأولت أن الفرقتين في أمة كل نبي وهي في الصدر {ثلة} وفي آخر الأمة {قليل}...
نقول: المشهور أنهم من كان قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، وإنما قال: {ثلة} والثلة الجماعة العظيمة، لأن من قبل نبينا من الرسل والأنبياء من كان من كبار أصحابهم إذا جمعوا يكونون أكثر بكثير من السابقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا قيل: إن الصحابة لما نزلت هذه الآية صعب عليهم قلتهم، فنزل بعده: {ثلة من الأولين، وثلة من الآخرين}...
.وكان ينبغي أن يفرحوا بهذه الآية لأنه تعالى لما قال: {ثلة من الأولين} دخل فيهم الأول من الرسل والأنبياء، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا جعل قليلا من أمته مع الرسل والأنبياء والأولياء الذين كانوا في درجة واحدة، يكون ذلك إنعاما في حقهم ولعله إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام: « علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل».
(الوجه الثاني) المراد منه: {السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} فإن أكثرهم لهم الدرجة العليا، لقوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق} الآية...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقد اختلفوا في المراد بقوله: {الأوَّلِينَ}، و {الآخِرِينَ}. فقيل: المراد بالأولين: الأمم الماضية، والآخرين: هذه الأمة...
عن أبي هريرة، قال: لما نزلت: {ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة -أو: شطر أهل الجنة- وتقاسمونهم النصف الثاني"...هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة. والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم، والله أعلم. فالقول الثاني في هذا المقام، هو الراجح، وهو أن يكون المراد بقوله: {ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ} أي: من صدر هذه الأمة، {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} أي: من هذه الأمة...
ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها، فيحتمل أن يعم الأمر جميع الأمم كل أمة بحسبها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن ثم يقف عند هذه الدرجة ليقول من هم أصحابها.. إنهم: (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين).. فهم عدد محدود. وفريق منتقى. كثرتهم في الأولين وقلتهم في الآخرين...
واختلفت الروايات في من هم الأولون ومن هم الآخرون. فالقول الأول: إن الأولين هم السابقون إلى الإيمان ذوو الدرجة العالية فيه من الأمم السابقة قبل الإسلام. وإن الآخرين هم السابقون إلى الإسلام ذوو البلاء فيه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {ثلة} خبر عن مبتدأ محذوف، تقديره: هم ثلة...
ومعنى: {الأولين} قوم متقدمون على غيرهم في الزمان لأن الأول هو الذي تقدم في صفة مَّا كالوجود أو الأحوال على غير الذي هو الآخِر أو الثاني، فالأوّلية أمر نسبي يبيّنه سياق الكلام حيثما وقع. و {مِن} تبعيضية كما هو بيّن، فاقتضى أن السابقين في الأزمنة الماضية وزمان الإسلام حاضِره ومستقبله بعض من كلًّ، والبعضية تقتضي القلة النسبية ولفظ {ثلة} مشعر بذلك ولفظ {قليل} صريح فيه...