ويلتفت السياق أمام مشهد الهول المفزع ، إلى المكذبين أولي النعمة ، يذكرهم فرعون الجبار ، وكيف أخذه الله أخذ عزيز قهار :
( إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا ) .
هكذا في اختصار يهز قلوبهم ويخلعها خلعا ، بعد مشهد الأرض والجبال وهي ترتجف وتنهار .
ثم قال مخاطبًا لكفار قريش ، والمراد سائر الناس : { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ } أي : بأعمالكم ، { كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، والثوري : { أَخْذًا وَبِيلا } أي : شديدا ، أي فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول ، فيصيبكم ما أصاب فرعون ، حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، كما قال تعالى : { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى } [ النازعات : 25 ] وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم ؛ لأن رسولكم أشرف وأعظم من موسى بن عمران . ويُروَى عن ابن عباس ومجاهد .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىَ فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَىَ فِرْعَوْنُ الرّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : إنا أرْسَلْنا إلَيْكُمْ أيها الناس رَسُولاً شاهِدا عَلَيْكُمْ بإجابة من أجاب منكم دعوتي ، وامتناع من امتنع منكم من الإجابة ، يوم تلقوني في القيامة كمَا أرْسَلْنا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً يقول : مثل إرسالنا من قبلكم إلى فرعون مصر رسولاً بدعائه إلى الحقّ ، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرّسُولَ الذي أرسلناه إليه فأَخَذْناهُ أخْذا وَبِيلاً يقول : فأخذناه أخذا شديدا ، فأهلكناه ومن معه جميعا وهو من قولهم : كلأٌ مستَوْبل ، إذا كان لا يُستمرأ ، وكذلك الطعام . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أخْذا وَبِيلاً قال : شديدا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أخْذا وَبِيلاً قال : شديدا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فأخَذْناهُ أخْذا وَبِيلاً أي شديدا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أخْذا وَبِيلاً قال : شديدا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فأخَذْناهُ أخْذا وَبِيلاً قال : الوبيل : الشرّ والعرب تقول لمن تتابع عليه الشرّ : لقد أوبل عليه ، وتقول : أوبلت على شرّك قال : ولم يرض الله بأن غُرّق وعُذّب حتى أقرّ في عذاب مستقرّ حتى يُبعث إلى النار يوم القيامة ، يريد فرعون .
وقوله تعالى : { إنا أرسلنا إليكم } الآية خطاب للعالم ، لكن المواجهون قريش ، وقوله { شاهداً عليكم } نحو قوله { وجئنا بك على هؤلاء شهيداً }{[11398]} [ النساء : 41 ] ، وتمثيله لهم أمرهم بفرعون وعيد كأنه يقول : فحالهم من العذاب والعقاب إن كفروا سائرة إلى مثل حال فرعون .
نقل الكلام إلى مخاطبة المشركين بعد أن كان الخطاب موجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
والمناسبة لذلك التخلصُ إلى وعيدهم بعد أن أمره بالصبر على ما يقولون وهجرهم هجراً جميلاً إذ قال له { وذرني والمكذبين } إلى قوله : { وعذاباً أليماً } [ المزمل : 1113 ] .
فالكلام استئناف ابتدائي ، ولا يُعد هذا الخطاب من الالتفات لأن الكلام نقل إلى غرض غير الغرض الذي كان قبله .
فالخطاب فيه جار على مقتضى الظاهر على كلا المذهبين : مذهب الجمهور ومذهب السكاكي .
والمقصود من هذا الخبر التعريض بالتهديد أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم ممن كذبوا الرسل فهو مثَل مضروب للمشركين .
وهذا أول مثَل ضربه الله للمشركين للتهديد بمصير أمثالهم على قول الجمهور في نزول هذه السورة .
واختير لهم ضرب المثل بفرعون مع موسى عليه السلام ، لأن الجامع بين حال أهل مكة وحال أهل مصر في سبب الإِعراض عن دعوة الرسول هو مجموع ما هم عليه من عبادة غير الله ، وما يملأ نفوسهم من التكبر والتعاظم على الرسول المبعوث إليهم بزعمهم أن مثلهم لا يطيع مِثله كما حكى الله تعالى عنهم بقوله : { فقالوا أنؤمن لبشرين مثِلنا وقومُهما لنا عابدون } [ المؤمنون : 47 ] وقد قال أهل مكة { لولا نُزِّل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتَوْا عُتُوّاً كبيراً } [ الفرقان : 21 ] . وقد تكرر في القرآن ضرب المثل بفرعون لأبي جهل وهو زعيم المناوين للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤلبين عليه وأشد صناديد قريش كفراً .
وأُكد الخبر ب ( إنَّ ) لأن المخاطبين منكرون أن الله أرسل إليهم رسولاً .
ونكر { رسولاً } لأنهم يعلمون المعنيَّ به في هذا الكلام ، ولأن مناط التهديد والتنظير ليس شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو صفة الإِرسال .
وأدمج في التنظير والتهديدِ وصفُ الرسول صلى الله عليه وسلم بكونه شاهداً عليهم .
والمراد بالشهادة هنا : الشهادة بتبليغ ما أراده الله من الناس وبذلك يكون وصف { شاهداً } موافقاً لاستعمال الوصف باسم الفاعل في زمن الحال ، أي هو شاهد عليكم الآن بمعاودة الدعوة والإِبلاغ .
وأما شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فهي شهادة بصدق المسلمين في شهادتهم على الأمم بأن رسلهم أبلغوا إليهم رسالات ربّهم ، وذلك قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } كما ورد تفصيل تفسيرها في الحديث الصحيح ، وقد تقدم في سورة البقرة ( 143 ) .
وتنكير { رسولاً } المرسَل إلى فرعون لأن الاعتبار بالإِرسال لا بشخص المرسل إذ التشبيه تعلق بالإِرسال في قوله : { كما أرسلنا إلى فرعون } إذ تقديره كإرسالنا إلى فرعون رسولاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.