والآن . وقد أسدل الستار على آخر مشهد من مشاهد العذاب والنكال . والمكذبون يشهدون ؛ ويتلقى حسهم إيقاع هذه المشاهد : الآن والمصارع المتتالية حاضرة في خيالهم ، ضاغطة على حسهم . . الآن يتوجه إليهم بالخطاب ؛ يحذرهم مصرعا كهذه المصارع . وينذرهم ما هو أدهى وأفظع :
( أكفاركم خير من أولئكم ? أم لكم براءة في الزبر ? أم يقولون : نحن جميع منتصر ? سيهزم الجمع ويولون الدبر . بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر . إن المجرمين في ضلال وسعر . يوم يسحبون في النار على وجوههم : ذوقوا مس سقر . إنا كل شيء خلقناه بقدر . وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر . ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر . وكل شيء فعلوه في الزبر . وكل صغير وكبير مستطر ) . .
إنه الإنذار بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ؛ وإسقاط كل شبهة وكل شك في صدق هذا الإنذار وسد كل ثغرة وكل طمع في الهرب والفكاك ؛ أو المغالطة في الحساب والفرار من الجزاء !
تلك كانت مصارع المكذبين . فما يمنعكم أنتم من مثل ذلك المصير ? ( أكفاركم خير من أولئكم ? ) . . وما ميزة كفاركم على أولئكم ? ( أم لكم براءة في الزبر ) . . تشهد بها الصحائف المنزلة ، فتعفوا إذن من جرائر الكفر والتكذيب ? لا هذه ولا تلك . فلستم خيرا من أولئكم ، وليست لكم براءة في الصحائف المنزلة ، وليس هنالك إلا لقاء المصير الذي لقيه الكفار من قبلكم في الصورة التي يقدرها الله لكم .
ثم قال : { أَكُفَّارُكُمْ } أي : أيها المشركون من كفار قريش { خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ } يعني : من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل ، وكفرهم بالكتب : أأنتم خير أم أولئك ؟ { أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ } أي : أم معكم {[27789]} من الله براءة ألا ينالكم عذاب ولا نكال ؟ .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَكُفّارُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلّونَ الدّبُرَ } .
يقول تعالى ذكره لكفار قريش الذين أخبر الله عنهم أنهم إنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرّ أكفاركم معشر قريش خير من أولئكم الذين أحللت بهم نقمتي من قوم نوح وعاد وثمود ، وقوم لوط وآل فرعون ، فهم يأملون أن ينجوا من عذابي ، ونقمي على كفرهم بي ، وتكذيبكم رسولي . يقول : إنما أنتم في كفركم بالله وتكذيبهم رسوله ، كبعض هذه الأمم التي وصفت لكم أمرهم ، وعقوبة الله بكم نازلة على كفركم به ، كالذي نزل بهم إن لم تتوبوا وتنيبوا . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أكُفّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أولَئِكُمْ : أي ممن مضى .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسن ، عن يزيد النحويّ ، عن عكرِمة أكُفّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ يقول : أكفاركم يا معشر قريش خير من أولئكم الذين مضوا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أكُفّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئكُمْ قال : أكفاركم خير من الكفار الذين عذبناهم على معاصي الله ، وهؤلاء الكفار خير من أولئك . وقال أكُفّارُكُمْ خيرٌ مِنْ أولئكم استنفاها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أكُفّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزّبُرِ يقول : ليس كفاركم خيرا من قوم نوح وقوم لوط .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس أكُفّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ قال : كفار هذه الأمة .
وقوله : أمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزّبُرِ يقول جلّ ثناؤه : أم لكم براءة من عقاب الله معشر قريش ، أن يصيبكم بكفركم بما جاءكم به الوحي من الله في الزبر ، وهي الكتب . كما :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا أبو عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : الزّبُرِ يقول : الكتب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أمْ لَكُمْ بَرَاءَةً فِي الزّبُرِ في كتاب الله براءة مما تخافون .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة أمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزّبُرِ يعني في الكتب .
وقوله تعالى : { أكفاركم } الآية خطاب لقريش ، وفهم على جهة التوبيخ . أثم خصلة من المال أو قوة أبدان وبسطة أو عقول أو غير ذلك ممنا يقتضي أنكم خير من هؤلاء المعذبين لما كذبوا ، فيرجى لكم بذلك الفضل النجاء من العذاب حين كذبتم رسولكم ؟ { أم لكم } في كتب الله المنزلة { براءة } من العذاب ؟ قاله الضحاك وابن زيد وعكرمة .
هذه الجملة كالنتيجة لحاصل القصص عن الأمم التي كذبت الرسل من قوم نوح فمن ذكر بعدهم ولذلك فُصِلت ولم تعطف .
وقد غير أسلوب الكلام من كونه موجَّهاً للرسول صلى الله عليه وسلم إلى توجيهه للمشركين ليُنتقل عن التعريض إلى التصريح اعتناء بمقام الإِنذار والإِبلاغ .
والاستفهام في قوله : { أكفاركم خير من أولائكم } يجوز أن يكون على حقيقته ، ويكون من المحسن البديعي الذي سماه السكاكي « سوْقَ المعلوم مساق غيره » . وسماه أهل الأدب من قبله ب « تجاهل العارف » . وعدل السكاكي عن تلك التسمية وقال لوقوعه في كلام الله تعالى نحو قوله : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] وهو هنا للتوبيخ كما في قول ليلى ابنة طريف الخارجية ترثي أخاها الوليد بن طريف الشيباني :
أبا شَجر الخابُورِ ما لكَ مُورِقَا *** كأنَّك لَم تَجْزَع على ابننِ طريف
الشاهد في قولها : كأنك لم تجزع الخ .
والتوبيخ عن تخطئتهم في عدم العذاب الذي حَلَّ بأمثالهم حتى كأنهم يحسبون كفّارهم خيراً من الكفّار الماضين المتحدَّث عن قصصهم ، أي ليس لهم خاصية تربأ بهم عن أن يلحقهم ما لَحق الكفار الماضين . والمعنى : أنكم في عدم اكتراثكم بالموعظة بأحوال المكذبين السابقين لا تخلون عن أن أحد الأمرين الذي طمأنكم من أن يصيبكم مثل ما أصابهم .
و { أم } للإِضراب الانتقالي . وما يقدر بعدها من استفهام مستعمل في الإِنكار . والتقدير : بل ما لكم براءة في الزبر حتى تكونوا آمنين من العقاب .
وضمير { كفاركم } لأهل مكة وهم أنفُسُهم الكفارُ ، فإضافة لفظ ( كفار ) إلى ضميرهم إضافة بيانية لأن المضاف صنف من جنس من أضيف هو إليه فهو على تقدير { مِن } البيانية . والمعنى : الكفارُ منكم خير من الكفار السالفين ، أي أأنتم الكفار خير من أولئك الكفار .
والمراد بالأَخْيَرية انتفاء الكفر ، أي خير عند الله الانتقام الإِلهي وادعاء فارق بينهم وبين أولئك .
والبراءة : الخلاص والسلامة مما يضرّ أو يشقّ أو يكلّف كلفة . والمراد هنا : الخلاص من المؤاخذة والمعاقبة .
و { الزّبر } : جمع زبور ، وهو الكتاب ، وزبور بمعنى مزبور ، أي براءة كتبت في كتب الله السالفة .
والمعنى : ألكم براءة في الزبر أن كفاركم لا ينالهم العقاب الذي نال أمثالهم من الأمم السالفة .
و { في الزبر } صفة { براءة } ، أي كائنة في الزبر ، أي مكتوبة في صحائف الكتب .
وأفاد هذا الكلام ترديد النجاة من العذاب بين الأمرين : إما الاتصاف بالخيْر الإِلهي المشار إليه بقوله تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] ، وإما المسامحة والعفو عما يقترفه المرء من السيئات المشار إليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم " لعل الله أطّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " . والمعنى انتفاء كلا الأمرين عن المخاطبين فلا مَأْمَنَ لهم من حلول العذاب بهم كما حلّ بأمثالهم .
والآية تُوذن بارتقاب عذاب ينال المشركين في الدنيا دون العذاب الأكبر ، وذلك عذاب الجوع الذي في قوله تعالى : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } [ الدخان : 10 ] كما تقدم ، وعذاب السيف يوم بدر الذي في قوله تعالى : { يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } [ الدخان : 16 ] .