عندئذ عاد نوح إلى ربه الذي أرسله وكلفه مهمة التبليغ . عاد لينهي إليه ما انتهى إليه أمره مع قومه ، وما انتهى إليه جهده وعمله ؛ وما انتهت إليه طاقته ووسعه . ويدع له الأمر بعد أن لم تعد لديه طاقة لم يبذلها ، وبعد أن لم تبق له حيلة ولا حول :
( فدعا ربه : أني مغلوب . فانتصر ) . .
انتهت طاقتي . انتهى جهدي . انتهت قوتي . وغلبت على أمري . ( أني مغلوب فانتصر ) . . انتصر أنت يا ربي . انتصر لدعوتك . انتصر لحقك . انتصر لمنهجك . انتصر أنت فالأمر أمرك ، والدعوة دعوتك . وقد انتهى دوري !
قوله جلّ ذكره : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاءٍ مُّنهْمَرٍ } .
كذب قوم نوح نبيَّهم ، وقالوا : إنه مجنون ، وزجروه وشتموه .
وقيل : { وَازْدُجِرَ } : أي استطار عَقْلهُ ، أي قومُ نوحٍ قالوا له ذلك .
فدعا ربَّه فقال : إِني مغلوب ؛ أي بتسلُّطِ قومي عليَّ ؛ فلم يكن مغلوباً بالحُجَّة لأنَّ الحُجَّةَ كانت عليهم ، فقال نوح لله : اللهمَّ فانتَصِرْ منهم أي انْتَقِمْ .
ففتحنا أبواب السماء بماءٍ مُنْصَبٍّ ، وشَقَقْنَا عيوناً بالماء ، فالتقي ماء السماءِ وماءُ الأرضِ على أمرٍ قد قُدِّرَ في اللوح المحفوظ ، وَقُدِرَ عليه بإهلاكهم !
وفي التفاسير : أن الماء الذي نَبَعَ من الأرضِ نَضَبَ . والماء الذي نزل من السماء هو البخارُ اليومَ .
مغلوب فانتصر : مغلوب فانتقم لي منهم .
10- { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } .
بعد عناد طويل ، وتكذيب وإصرار من قوم نوح ، وبعد أن صبر هذا الرسول صبرا طويلا ، واشتكى إلى الله ما حكاه القرآن ، حيث قال تعالى :
{ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً } .
دعا نوح ربه قائلا : إني مغلوب مقهور فانتصر لي يا الله ، وقد استجاب الله دعاء نوح عليه السلام .
{ فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى } أي بأني .
وقرأ ابن أبي اسحق . وعيسى . والأعمش . وزيد بن علي ورويت عن عاصم { إِنّى } بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين ، وعلى إجراء الدعاء مجرى القول عند الكوفيين { مَغْلُوبٌ } من جهة قومي مالي قدرة على الانتقام منهم { فانتصر } فانتقم لي منهم ، وقيل : فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك ، وقيل : المراد بمغلوب غلبتني نفسي حتى دعوت عليهم بالهلاك وهو خلاف الظاهر وما دعا عليه السلام عليهم إلا بعد اليأس من إيمانهم ، والتأكيد لمزيد الاعتناء بأمر الترحم المقصود من الأخبار .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَدَعا رَبّهُ أني مَغْلُوبٌ فانْتَصِرْ "يقول تعالى ذكره: فدعا نوح ربه: إن قومي قد غلبوني، تمرّدا وَعتوّا، ولا طاقة لي بهم، فانتصر منهم بعقاب من عندك على كفرهم بك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فدعا ربه أني مغلوب فانتصر} أي مغلوب بالسّفه والمكابرة وأنواع الأذى؛ إذ لا يحتمل أن يكون مغلوبا بالحُجج، {فانتصر} لعبدك عليهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"فدعا " عند ذلك " ربه " فقال يا رب " اني مغلوب " قد غلبني هؤلاء الكفار بالقهر لا بالحجة "فانتصر" منهم بالإهلاك والدمار نصرة لدينك ونبيك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عندئذ عاد نوح إلى ربه الذي أرسله وكلفه مهمة التبليغ. عاد لينهي إليه ما انتهى إليه أمره مع قومه، وما انتهى إليه جهده وعمله؛ وما انتهت إليه طاقته ووسعه. ويدع له الأمر بعد أن لم تعد لديه طاقة لم يبذلها، وبعد أن لم تبق له حيلة ولا حول: (فدعا ربه: أني مغلوب. فانتصر). انتهت طاقتي...
.وغلبت على أمري. (أني مغلوب فانتصر).. انتصر أنت يا ربي. انتصر لدعوتك...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمغلوب مجاز، شبه يأسه من إجابتهم لدعوته بحال الذي قاتل أو صارع فغلبه مقاتله، وقد حكى الله تعالى في سورة نوح كيف سلك مع قومه وسائل الإقناع بقبول دعوته فأعيته الحيل. وحذف متعلق {فانتصر} للإِيجاز وللرعي على الفاصلة والتقدير: فانتصر لي، أي انصرني.