عندئذ عاد نوح إلى ربه الذي أرسله وكلفه مهمة التبليغ . عاد لينهي إليه ما انتهى إليه أمره مع قومه ، وما انتهى إليه جهده وعمله ؛ وما انتهت إليه طاقته ووسعه . ويدع له الأمر بعد أن لم تعد لديه طاقة لم يبذلها ، وبعد أن لم تبق له حيلة ولا حول :
( فدعا ربه : أني مغلوب . فانتصر ) . .
انتهت طاقتي . انتهى جهدي . انتهت قوتي . وغلبت على أمري . ( أني مغلوب فانتصر ) . . انتصر أنت يا ربي . انتصر لدعوتك . انتصر لحقك . انتصر لمنهجك . انتصر أنت فالأمر أمرك ، والدعوة دعوتك . وقد انتهى دوري !
مغلوب فانتصر : مغلوب فانتقم لي منهم .
10- { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } .
بعد عناد طويل ، وتكذيب وإصرار من قوم نوح ، وبعد أن صبر هذا الرسول صبرا طويلا ، واشتكى إلى الله ما حكاه القرآن ، حيث قال تعالى :
{ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً } .
دعا نوح ربه قائلا : إني مغلوب مقهور فانتصر لي يا الله ، وقد استجاب الله دعاء نوح عليه السلام .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَدَعا رَبّهُ أني مَغْلُوبٌ فانْتَصِرْ "يقول تعالى ذكره: فدعا نوح ربه: إن قومي قد غلبوني، تمرّدا وَعتوّا، ولا طاقة لي بهم، فانتصر منهم بعقاب من عندك على كفرهم بك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فدعا ربه أني مغلوب فانتصر} أي مغلوب بالسّفه والمكابرة وأنواع الأذى؛ إذ لا يحتمل أن يكون مغلوبا بالحُجج، {فانتصر} لعبدك عليهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"فدعا " عند ذلك " ربه " فقال يا رب " اني مغلوب " قد غلبني هؤلاء الكفار بالقهر لا بالحجة "فانتصر" منهم بالإهلاك والدمار نصرة لدينك ونبيك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عندئذ عاد نوح إلى ربه الذي أرسله وكلفه مهمة التبليغ. عاد لينهي إليه ما انتهى إليه أمره مع قومه، وما انتهى إليه جهده وعمله؛ وما انتهت إليه طاقته ووسعه. ويدع له الأمر بعد أن لم تعد لديه طاقة لم يبذلها، وبعد أن لم تبق له حيلة ولا حول: (فدعا ربه: أني مغلوب. فانتصر). انتهت طاقتي...
.وغلبت على أمري. (أني مغلوب فانتصر).. انتصر أنت يا ربي. انتصر لدعوتك...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمغلوب مجاز، شبه يأسه من إجابتهم لدعوته بحال الذي قاتل أو صارع فغلبه مقاتله، وقد حكى الله تعالى في سورة نوح كيف سلك مع قومه وسائل الإقناع بقبول دعوته فأعيته الحيل. وحذف متعلق {فانتصر} للإِيجاز وللرعي على الفاصلة والتقدير: فانتصر لي، أي انصرني.
ولما طال ذلك منهم ومضت عليه أجيالهم جيلاً بعد جيل حتى مضى له من إنذارهم أكثر مما مضى من الزمان لأمة هذا النبي الخاتم إلى يومنا هذا ، وأخبره الله أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن معه ، تسبب عن ذلك الدعاء بالراحة منهم ، فلذلك قال صارفاً وجه الخطاب إلى صفة الإحسان والربوبية{[61757]} والامتنان إيذاناً بأنه أجاب دعاءه ولبى نداءه : { فدعا ربه } أي الذي رباه بالإحسان إليه برسالته معلماً له لما أيس من أجابتهم : { أني مغلوب } أي من قومي كلهم بالقوة والمنعة لا بالحجة ، وأكده لأنه من يأبى عن الملك الأعظم يكون مظنة النصرة ، وإبلاغاً في الشكاية إظهاراً لذل العبودية ، لأن الله سبحانه عالم بسر العبد وجهره ، فما شرع الدعاء في أصله إلا لإظهار التذلل ، وكذا الإبلاغ فيه { فانتصر * } أي أوقع نصري عليهم أنت وحدك على أبلغ وجه .