يقول تعالى ذكره : وإن إلياس ، وهو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران فيما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سَلَمة ، عن ابن إسحاق . وقيل : إنه إدريس .
حدثنا بذلك بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان يقال : إلياس هو إدريس .
وقد ذكرنا ذلك فيما مضى قبل . وقوله : لَمِنَ المُرْسَلِينَ يقول جلّ ثناؤه : لمرسل من المرسلين إذْ قالَ لَقَوْمِهِ ألا تَتّقُونَ ؟ يقول حني قال لقومه في بني إسرائيل : ألا تتقون الله أيها القوم ، فتخافونه ، وتحذرون عقوبته على عبادتكم ربا غير الله ، وإلها سواه وَتَذَرُونَ أحْسَنَ الخالِقِينَ يقول : وتَدَعون عبادةَ أحسنِ مَن قيل له خالق .
وقد اختلف في معنى بَعْل ، فقال بعضهم : معناه : أتدعون ربا ؟ وقالوا : هي لغة لأهل اليمن معروفة فيهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا حِرْميّ بن عُمارة ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني عُمارة ، عن عكرمة ، في قوله : أنَدْعُونَ بَعْلاً قال : إلها .
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا عمارة ، عن عكرمة ، في قوله : أتَدْعونَ بَعْلاً يقول : أتدعون ربا ، وهي لغة أهل اليمن ، تقول : مَنْ بَعْل هذا الثور : أي من رَبّه ؟ .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : أتَدْعُونَ بَعْلاً ؟ قال : ربا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أتَدْعُونَ بَعْلاً قال : هذه لغة باليمانية : أتدعون ربا دون الله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : أتَدْعُونَ بَعْلاً قال : رَبّا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن عبد الله بن أبي يزيد ، قال : كنت عند ابن عباس فسألوه عن هذه الاَية : أتَدْعُونَ بَعْلاً قال : فسكت ابن عباس ، فقال رجل : أنا بعلُها ، فقال ابن عباس : كفاني هذا الجواب .
وقال آخرون : هو صنم كان لهم يقال له بَعْل ، وبه سميت بعلبك . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أتَدْعُونَ بَعْلاً يعني : صنما كان لهم يسمى بَعْلاً .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أحْسَنَ الخالِقِينَ ؟ قال : بعل : صنم كانوا يعبدون ، كانوا ببعلك ، وهم وراء دمشق ، وكان بها البعل الذي كانوا يعبدون .
وقال آخرون : كان بَعْل : امرأة كانوا يعبدونها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : سمعت بعض أهل العلم يقول : ما كان بَعْل إلا امرأة يعبدونها من دون الله .
وللبَعْل في كلام العرب أوجه : يقولون لربّ الشيء هو بَعْلَهُ ، يقال : هذا بَعْل هذه الدار ، يعني ربّها ويقولون لزوج المرأة بعلُها ويقولون لما كان من الغروس والزروع مستغنيا بماء السماء ، ولم يكن سَقِيا بل هو بعل ، وهو العَذْي . وذُكر أن الله بعث إلى بني إسرائيل إلياس بعد مهلك حِزْقيل بن يوزا . وكان من قصته وقصة قومه فيما بلغنا ، ما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن وهب بن منبه ، قال : إن الله قبض حِزْقيل ، وعظمت من بني إسرائيل الأحداث ، ونسُوْا ما كان من عهد الله إليهم ، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها دون الله ، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيا . وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يُبعثون إليهم بتجديد ما نسُوا من التوراة ، فكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل ، يقال له : أحاب ، كان اسم امرأته : أربل ، وكان يسمع منه ويصدّقه ، وكان إلياس يقيم له أمره ، وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله يقال له بعل .
قال ابن إسحاق : وقد سمعت بعض أهل العلم يقول : ما كان بعد إلا امرأة يعبدونها من دون الله يقول الله لمحمد : وَإنّ إلْياس لَمِنَ المُرْسَلِينَ إذْ قالَ لَقَوْمِهِ ألا تَتّقُونَ أتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أحْسَنَ الخالِقِينَ اللّهَ رَبّكُمْ وَرَبّ آبائِكُمُ الأوّلِينَ فجعل إلياس يدعوهم إلى الله ، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا إلا ما كان من ذلك الملك ، والملوك متفرّقة بالشام ، كل ملك له ناحية منها يأكلها ، فقال ذلك الملك الذي كان إلياس معه يقوّم له أمره ، ويراه على هدى من بين أصحابه يوما : يا إلياس ، والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلاً ، والله ما أرى فلانا وفلانا ، يعدّد ملوكا من ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان من دون الله إلا على مثل ما نحن عليه ، يأكلون ويشربون وينعمون مملكين ، ما ينقص دنياهم أمرُهم الذي تزعم أنه باطل ، وما نرى لنا عليهم من فضل فيزعمون والله أعلم أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده ، ثم رفضه وخرج عنه ، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه : عبد الأوثان ، وصنع ما يصنعون ، فقال إلياس : اللهمّ إن بني إسرائيل قد أبَوْا إلا أن يكفروا بك والعبادةَ لغيرك ، فغَيّرْ ما بهم من نعمتك ، أو كما قال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : فذكر لي أنه أُوحي إليه : إنا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك وإليك حتى تكون أنت الذي تأذن في ذلك ، فقال إلياس : اللهمّ فأمسك عليهم المطر فحُبِس عنهم ثلاث سنين ، حتى هلكت الماشية والهوامّ والدوابّ والشجر ، وجَهِد الناس جَهدا شديدا . وكان إلياس فيما يذكرون حين دعا بذلك على بني إسرائيل قد استخفى ، شفقا على نفسه منهم ، وكان حيثما كان وضع له رزق ، وكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في دار أو بيت ، قالوا : لقد دخل إلياس هذا المكان فطلبوه ، ولقى منهم أهل ذلك المنزل شرا . ثم إنه أوَى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له اليسع ابن أخطوب به ضرّ ، فآوته وأخفت أمره ، فدعا إلياس لابنها ، فعُوفَى من الضرّ الذي كان به ، واتبعَ اليسعُ إلياسَ ، فآمن به وصدّقه ولزمه ، فكان يذهب معه حيثما ذهب . وكان إلياس قد أسنّ وكبر ، وكان اليسعُ غلاما شابا ، فيزعمون والله أعلم أن الله أوحى إلى إلياس : إنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص سوى بني إسرائيل من البهائم والدوابّ والطير والهوامّ والشجر ، بحبس المطر عن بني إسرائيل ، فيزعمون والله أعلم أن إلياس قال : أي ربّ دعني أنا الذي أدعو لهم وأكون أنا الذي آتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم ، لعلهم أن يرجعوا ويَنزِعوا عما هم عليه من عبادة غيرك ، قيل له : نعم فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال لهم : إنكم قد هلكتم جَهْدا ، وهلكت البهائم والدوابّ والطير والهوامّ والشجر ، بخطاياكم ، وإنكم على باطل وغرور ، أو كما قال لهم ، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك ، وتعلموا أن الله عليكم ساخط فيما أنتم عليه ، وأن الذي أدعوكم إليه الحقّ ، فاخرجوا بأصنامكم هذه التي تعبدون وتزعمون أنها خير مما أدعوكم إليه ، فإن استجابت لكم ، فذلك كما تقولون ، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل ، فنزعتُم ، ودعوت الله ففرّج عنكم ما أنتم فيه من البلاء ، قالوا : أنصفت فخرجوا بأوثانهم ، وما يتقرّبون به إلى الله من إحداثهم الذي لا يرضى ، فدعوها فلم تستجب لهم ، ولم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء حتى عرفوا ما هم فيه من الضلالة والباطل ، ثم قالوا لإلياس : يا إلياس إنا قد هلكنا فادع الله لنا ، فدعا لهم إلياس بالفرج مما هم فيه ، وأن يسقوا ، فخرجت سحابة مثل التّرس بإذن الله على ظهر البحر وهم ينظرون ، ثم ترامى إليه السحاب ، ثم أدْحَسَتْ ثم أرسل المطر ، فأغاثهم ، فحييت بلادهم ، وفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ، فلم ينزعوا ولم يرجعوا ، وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه فلما رأى ذلك إلياس من كفرهم ، دعا ربه أن يقبضه إليه ، فيريحه منهم ، فقيل له فيما يزعمون : انظر يوم كذا وكذا ، فاخرج فيه إلى بلد كذا وكذا ، فماذا جاءوك من شيء فاركبه ولا تهبه فخرج إلياس وخرج معه اليسع بن أخطوب ، حتى إذا كان في البلد الذي ذُكر له في المكان الذي أُمر به ، أقبل إليه فرس من نار حتى وقف بين يديه ، فوثب عليه ، فانطلق به ، فناداه اليسع : يا إلياس يا إلياس ما تأمرني ؟ فكان آخر عهدهم به ، فكساه الله الريش ، وألبسه النور ، وقطع عنه لذّة المطعم والمشرب ، وطار في الملائكة ، فكان إنسيا ملكيا أرضيا سمَاويا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : اللّهَ رَبّكُمْ وَرَبّ آبائِكُمُ الأوّلِينَ فقرأته عامة قرّاء مكة والمدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة : «اللّهُ رَبّكُمْ وَرَبّ آبائِكُمُ الأوّلِينَ » رفعا على الاستئناف ، وأن الخبر قد تناهى عند قوله : أحْسَنُ الخالِقِينَ . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : اللّهَ رَبّكُمْ وَرَبّ آبائِكُمُ الأوّلِينَ نصبا ، على الردّ على قوله : وَتَذَرُونَ أحْسَنَ الخالِقِينَ على أن ذلك كله كلام واحد .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، مع استفاضة القراءة بهما في القرّاء ، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب . وتأويل الكلام : ذلك معبودكم أيها الناس الذي يستحقّ عليكم العبادة : ربكم الذي خلقكم ، وربّ آبائكم الماضين قبلكم ، لا الصنم الذي لا يخلق شيئا ، ولا يضرّ ولا ينفع .
وجملة { الله ربُّكُم وربُّ ءَابآئِكُمُ الأوَّلينَ } قرأ الأكثر برفع اسم الجلالة وما عطف عليه فهو مبتدأ والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً والخبر مستعمل في التنبيه على الخطأ بأن عبدوا { بعلاً } . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بنصب اسم الجلالة على عطف البيان ل { أحْسنَ الخالِقِينَ } ، والمقصود من البيان زيادة التصريح لأن المقام مقام إيضاح لأصل الديانة ، وعلى كلتا القراءتين فالكلام مسوق لتذكيرهم بأن من أصول دينهم أنهم لا ربّ لهم إلا الله ، وهذا أول أصول الدين فإنه ربّ آبائهم فإن آباءهم لم يعبدوا غير الله من عهد إبراهيم عليه السلام وهو الأب الأول من حيث تميزت أمتهم عن غيرهم ، أو هو يعقوب قال تعالى : { وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إن اللَّه اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] ، واحتراز ب { الأوَّلِينَ } عن آبائهم الذين كانوا في زمان ملوكهم بعد سليمان .
وجمع هذا الخبر تحريضاً على إبطال عبادة « بعل » لأن في الطبع محبة الاقتداء بالسلف في الخير . وقد جمع إلياس من معه من أتباعه وجعل مكيدة لسدنة ( بعل ) فقتلهم عن آخرهم انتصاراً للدّين وانتقاماً لمن قتلتهم ( إيزابل ) زوجة ( آخاب ) .
وفي « مفاتيح الغيب » : « كان الملقب بالرشيد الكاتب{[349]} يقول : لو قيل : أتدعُون بعلاً وتدَعون أحسن الخالقين ، أوْهَم أنه أحسن » ، أي أوهم كلام الرشيد أنه لو كانت كلمة ( تدعون ) عوضاً عن { تذرون } . وأجاب الفخر بأن فصاحة القرآن ليست لأجل رعاية هذه التكاليف بل لأجْل قوة المعاني وجزالة الألفاظ اهـ . وهو جواب غير مقنع إذ لا سبيل إلى إنكار حسن موقع المحسنات البديعية بعد استكمال مقتضيات البلاغة . قال السّكّاكي : « وأصل الحسن في جميع ذلك ( أي ما ذكر من المحسنات البديعية ) أن تكون الألفاظُ توابع للمعاني لا أن تكون المعاني لها توابع ، أعني أن لا تكون متكلفة » . فإذا سلمنا أن ( تذرون ) و ( تدعون ) مترادفان لم يكن سبيل إلى إبطال أن إيثار ( تدعون ) أنسب .
فالوجه إما أن يجاب بما قاله سعد الله محشي البيضاوي بأن الجناس من المحسنات فإنما يناسب كلاماً صادراً في مقام الرضى لا في مقام الغضب والتهويل .
يعني أن كلام إلياس المحكيَّ هنا محكي عن مقام الغضب والتهويل فلا تناسبه اللطائف اللفظية ( يعني بالنظر إلى حال المخاطَبين به لأن كلامه محكي في العربية بما يناسب مصدره في لغة قائله وذلك من دقائق الترجمة ) ، وهو جواب دقيق ، وإن كابر فيه الخفاجي بكلام لا يليق ، وإن تأمّلتَه جزمت باختلاله . وقد أجيب بما يقتضي منع الترادف بين فعلي { تذرون } و « تدعون » بأن فعل ( يدع ) أخص : إما لأنه يدل على ترك شيء مع الاعتناء بعدم تركه كما قال سعد الله ، وإما لأن فعل يدع يدل على ترك شيء قبل العلم ، وفعل ( يذر ) يدل على ترك شيء بعد العلم به كما حكاه سعد الله عن بعض الأيمة عازياً إياه للفخر .
وعندي : أن منع الترادف هو الوجه لكن لا كما قال سعد الله ولا كما نُقل عن الفخر بل لأن فعل ( يدع ) قليل الاستعمال في كلام العرب ولذلك لم يقع في القرآن إلا في قراءة شاذّة لا سند لها خلافاً لفعل ( يذر ) . ولا شك أن سبب ذلك أن فعل ( يذر ) يدل على ترك مع إعراض عن المتروك بخلاف ( يدع ) فإنه يقتضي تركاً مؤقتاً وأشار إلى الفرق بينهما كلام الراغب فيهما . وهنالك عدة أجوبة أخرى ، هي بالإِعراض عنها أَحْرى .