ثم لم يزل فرعون وقومه ، مستمرين على كفرهم ، يأتيهم موسى بالآيات البينات ، وكلما جاءتهم آية ، وبلغت منهم كل مبلغ ، وعدوا موسى ، وعاهدوه لئن كشف الله عنهم ، ليؤمنن به ، وليرسلن معه بني إسرائيل ، فيكشفه الله ، ثم ينكثون ، فلما يئس موسى من إيمانهم ، وحقت عليهم كلمة العذاب ، وآن لبني إسرائيل أن ينجيهم من أسرهم ، ويمكن لهم في الأرض ، أوحى الله إلى موسى : { أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي } .
أي : اخرج ببني إسرائيل أول الليل ، ليتمادوا ويتمهلوا في ذهابهم . { إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ } أي : سيتبعكم فرعون وجنوده .
ووقع كما أخبر ، فإنهم لما أصبحوا ، وإذا بنو إسرائيل قد سروا كلهم مع موسى .
وقوله : وأوْحَيْنا إلى مَوسَى أنْ أسْرِ بعِبادِي يقول : وأوحينا إلى موسى إذ تمادى فرعون في غيّه وأبى إلا الثبات على طغيانه بعد ما أريناه آياتنا ، أن أَسْرِ بعبادي : يقول : أن سر ببني إسرائيل ليلاً من أرض مصر إنّكُمْ مُتّبَعُونَ إن فرعون وجنده متبعوك وقومك من بني إسرائيل ، ليحولوا بينكم وبين الخروج من أرضهم ، أرض مصر .
ثم إن الله عز وجل لما أراد إظهار أمره في نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه أمر موسى أن يخرج بني إسرائيل ليلاً من مصر ، وأخبر أنهم سيتبعون وأمره بالسير تجاه البحر ، وأمره بأن يستعير بنو إسرائيل حلي القبط وأموالهم وأن يستكثروا من أخذ أموالهم كيف ما استطاعوا هذا فيما رواه بعض المفسرين ، وأمره باتخاذ خبز الزاد ، فروي أنه أمر باتخاذه فطيراً لأنه أبقى وأثبت ، وروي أن الحركة أعجلتهم عن اختمار خبز الزاد ، وخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل سحراً فترك الطريق إلى الشام على يساره وتوجه نحو البحر ، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق فيقول موسى هكذا أمرت ، فلما أصبح فرعون وعلم بسرى موسى ببني إسرائيل خرج في أثرهم وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه العساكر ، فروي أنه لحقه ومعه ستمائة ألف أدهم من الخيل حاشى سائر الألوان ، وروي أن بني إسرائيل كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً قاله ابن عباس والله أعلم بصحته ، وإنما اللازم من الآية الذي يقطع به أن موسى عليه السلام خرج بجمع عظيم من بني إسرائيل وأن فرعون تبعه بأضعاف ذلك العدد ، قال ابن عباس كان مع فرعون ألف جبار كلهم عليه تاج وكلهم أمير خيل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي} بني إسرائيل ليلا {إنكم متبعون}، يعنى يتبعكم فرعون وقومه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وأوْحَيْنا إلى مَوسَى أنْ أسْرِ بعِبادِي" يقول: وأوحينا إلى موسى إذ تمادى فرعون في غيّه وأبى إلا الثبات على طغيانه بعد ما أريناه آياتنا، أن أَسْرِ بعبادي: يقول: أن سر ببني إسرائيل ليلاً من أرض مصر.
"إنّكُمْ مُتّبَعُونَ "إن فرعون وجنده متبعوك وقومك من بني إسرائيل، ليحولوا بينكم وبين الخروج من أرضهم، أرض مصر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} علل الأمر بالإسراع باتباع فرعون وجنوده آثارهم. والمعنى: أني بنيت تدبير أمركم وأمرهم على أن تتقدّموا ويتبعوكم، حتى يدخلوا مدخلكم، ويسلكوا مسلككم من طريق البحر، فأطبقه عليهم فأهلكهم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
لما كان من سنته تعالى في عباده إنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه، المعترفين برسالة رسله وأنبيائه، وإهلاك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه، أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلا وسماهم عباده؛ لأنهم آمنوا بموسى. ومعنى "إنكم متبعون "أي يتبعكم فرعون وقومه ليردوكم. وفي ضمن هذا الكلام تعريفهم أن الله ينجيهم منهم، فخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قص سبحانه من حال الدعاء ما كفى في التسلية من قصد هذين النبيين بالأذى والتهكم بمن دعوا إليه، وجعلهما الأعليين، ولم يضرهما ضعفهما وقلتهما، ولا نفع عدوهما قوته وكثرته، شرع يسلي بما أوقعه في حال السير، فقال طاوياً ما بقي منه لأن هذا ذكّر به، عاطفاً على هذه القصة: {وأوحينا} أي بما لنا من العظمة حين أردنا فصل الأمر وإنجاز الموعود {إلى موسى أن أسر} أي سر ليلاً، حال اشتغال فرعون وجنوده بموت أبكارهم وتجهيزهم لهم {بعبادي} أي بني إسرائيل الذين كرمتهم مصاحباً لهم إلى ناحية بحر القلزم، غير مبال بفرعون ولا منزعج منه، وتزودوا اللحم والخبز الفطير للإسراع، وألطخوا أعتابكم بالدم، لأني أوصيت الملائكة الذين يقتلون الأبكار أن لا يدخلوا بيتاً على بابه دم؛ ثم علل أمر له بالسير في الليل بقوله: {إنكم متبعون} أي لا تظن أنهم لكثرة ما رأوا من الآيات يكفون عن اتباعكم، فأسرع بالخروج لتبعدوا عنهم إلى الموضع الذي قدرت في الأزل أن يظهر فيه مجدي، والمراد توافيهم عند البحر، ولم يكتم اتباعكم عن موسى عليه السلام لعدم تأثره به لما تحقق عنده من الحفظ لما تقدم به الوعد الشريف بذلك التأكيد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه قصة أخرى من أحوال موسى في دعوة فرعون، فالواو لعطف القصة ولا تفيد قرب القصة من القصة، فقد لبث موسى زمناً يطالب فرعون بإطلاق بني إسرائيل ليخرجُوا من مصر، وفرعون يماطل في ذلك حتى رأى الآياتتِ التسعَ كما تقدم في سورة الأعراف. ونظير بعض هذه الآية تقدم في سورة طه. وزادت هذه بقوله: {إنكم متبعون}، أي أعلم الله موسى أن فرعون سيتبعهم بجنده كما في آية سورة طه. والقصد من إعلامه بذلك تشجيعه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وجاءت نهاية المطاف.. فقد قرر فرعون بعد هذا العناء الطويل في صراعه مع موسى أن يستعمل القوّة القاهرة المسلّحة للقضاء على موسى وأتباعه ليحفظ هيبة موقعه الإِلهي وقوّة ملكه. وبدأ يعدّ العدة لذلك، وأوحى الله إلى موسى بالأمر ليأخذ له عدّته. {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} من بني إسرائيل، فتحرك بالليل لتغطي انسحابك، لتخرج بني إسرائيل معك من دون استشارة فرعون، لأنك في موقع القوة لا الضعف الذي يضطرك إلى أخذ موافقته. ولكن ذلك لن يخفف من طبيعة المجابهة المسلحة التي قرر فرعون مواجهتك بها {إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} ومطاردون، وذلك من خلال الجموع الغفيرة التي دعاها للقيام بتلك المهمة ضدكم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في الآيات المتقدمة... رأينا كيف أنّ موسى خرج منتصراً من تلك المواجهة. رغم عدم إيمان فرعون وقومه إلاّ أن هذه القضية كان لها عدة آثار مهمّة، يعدُّ كلٌ منها انتصاراً مهمّاً: 1 آمن بنو إسرائيل بنبيّهم «موسى (عليه السلام)» والتفّوا حوله بقلوب موحّدة... لأنّهم بعد سنوات طوال من القهر والتعسف والجور يرون نبيّاً سماوياً في أوساطهم يضمن هدايتهم وعلى استعداد لأنّ يقود ثورتهم نحو الحرية وتحقيق النصر على فرعون..
لقد شقّ موسى (عليه السلام) طريقه وسط أهل مصر من الأقباط وغيرهم... ومال إليه جمع منهم، أو على الأقل خافوا من مخالفته، وطافت أصداء دعوة موسى في أرجاء مصر جمعاء!
وأهمّ من كل ذلك أنّ فرعون لم ير في نفسه القدرة لا من جهة أفكار عامّة الناس، ولا من جهة الخوف على مقامه على مواجهة رجل له عَصَا كهذه العصا، ولسان مؤثر كلسان موسى. هذه الأُمور هيأت أرضية ملائمة لأن ينشر موسى (عليه السلام) دعوته بين الناس، ويتمّ الحجة عليهم! ومرّت سنون طوال على هذا المنوال، وموسى (عليه السلام) يظهر المعاجز تلو المعاجز كما أشارت إليها سورة الأعراف وبينّاها في ذيل الآيات 130 -135 منها إلى جانب منطقه المتين، حتى ابتلى الله أهل مصر بالقحط والجذب لسنوات لعلهم يتّقون...
ولمّا أتمّ موسى على أهل مصر الحجة البالغة، وامتازت صفوف المؤمنين من صفوف المنكرين، نزل الوحيُ على موسى أن يخرج بقومه من مصر، والآيات التالية تجسد هذا المشهد فتقول أوّلا: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي أنّكم متبعون). وهذه خطة إلهية على موسى (عليه السلام) أن يمتثلها ويسري بقومه ليلا، وإنّ على فرعون وقومه أن يعلموا ذلك فيتبعوهم ليحدث ما يحدث بأمر الله. والتعبير ب «عبادي» بضمير الإفراد، مع أن الفعل (أوحينا) في الجملة ذاتها مسند إلى ضمير الجمع، إنّما هو لبيان منتهى محبة الله لعباده المؤمنين... وفعلا امتثل موسى (عليه السلام) هذا الأمر، وعبأ بني إسرائيل بعيداً عن أعين أعدائهم، وأمرهم بالتحرك، واختار الليل خاصّة لتنفيذ أمر الله لتكون خطته نافذة. إلاّ أن من البديهي أن حركة جماعة بهذا الشكل ليس هيناً يسيراً يمكن إخفاؤه لزمان طويل، فما كان أسرع أن رفع جواسيس فرعون هذا الخبر إليه، وكما يحدثنا القرآن عن ذلك أن فرعون أرسل رسله وأعوانه إلى المدن لجمع القوات: (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين).