والفاء فى قوله - تعالى - : { فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم } لترتيب ما بعدها على ما قبلها .
أى : وما دام الأمر كذلك ، فسبح - أيها العاقل - باسم ربك العظيم ، بأن تنزهه عن الشرك والولد ، وبأن تخلص له العبادة والطاعة .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة ، قد ذكرت أربعة أدلة على إمكانية البعث : الأول عن طريق خلق الإنسان . والثانى عن طريق إنبات النبات ، والثالث عن طريق إنزال الماء من السحاب : والرابع عن طريق إنشاء الشجر الذى تستخرج منه النار .
وإنها لأدلة واضحة على كمال قدرة الله - تعالى - ووحدانيته لكل عبد منيب .
وبعد أن ساق - سبحانه - هذه الأدلة المتنوعة على كمال قدرته وعلى صحة البعث . . .
التفت - سبحانه - بالحديث إلى أولئك الذين وصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين . . . فرد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ونعت القرآن بنعوت جليلة فقال - تعالى - : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ . . . } .
وحين يبلغ السياق إلى هذا الحد من عرض هذه الحقائق والأسرار ، الناطقة بدلائل الإيمان . الميسرة للقلوب والأذهان . يلتفت إلى الحقيقة التي تنتهي إليها هذه الحقائق . حقيقة وجود الله وعظمته وربوبيته . وهي حقيقة تواجه الفطرة مواجهة ذات قوة وسلطان . فيهيب بالرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يحيي هذه الحقيقة ويؤدي حقها ؛ ويلمس القلوب بها في حينها :
القول في تأويل قوله تعالى : { فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ * فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النّجُومِ * وَإِنّهُ لَقَسَمٌ لّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مّكْنُونٍ * لاّ يَمَسّهُ إِلاّ الْمُطَهّرُونَ * تَنزِيلٌ مّن رّبّ الْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فسبح يا محمد بذكر ربك العظيم ، وتسميته .
رتب على ما مضى من الكلام المشتمل على دلائل عظمة القدرة الإِلهية وعلى أمثال لتقريب البعث الذي أنكروا خبره ، وعلى جلائل النعم المدمجة في أثناء ذلك أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن ينزهه تنزيهاً خاصاً معقِّباً لما تفيضه عليه تلك الأوصاف الجليلة الماضية من تذكر جديد يكون التنزيه عقبه ضرباً من التذكر في جلال ذاته والتشكر لآلائه فإن للعبادات مواقع تكون هي فيها أكمل منها في دونها ، فيكون لها من الفضل ما يجزل ثوابه فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يخلو عن تسبيح ربه والتفكرِ في عظمة شأنه ولكن لاختلاف التسبيح والتفكر من تجدد ملاحظة النفس ما يجعل لكل حال من التفكر مزايا تكسبه خصائص وتزيده ثواباً .
فالجملة عطف على جملة { قل إن الأولين والآخرين لمجموعون } إلى قوله : { ومتاعاً للمقوين } [ الواقعة : 49 73 ] ، وهي تذييل .
والتسبيح : التنزيه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ونحن نسبح بحمدك } في سورة البقرة ( 30 ) .
واسم الرب : هو ما يدل على ذاته وجُماع صفاته وهو اسم الجلالة ، أي بأن يقول : سبحان الله ، فالتسبيح لفظ يتعلق بالألفاظ .
ولما كان الكلام موضوعاً للدلالة على ما في النفس كان تسبيح الاسم مقتضياً تنزيه مُسماه وكان أيضاً مقتضياً أن يكون التسبيح باللفظ مع الاعتقاد لا مجرد الاعتقاد لأن التسبيح لما علق بلفظ اسم تعين أنه تسبيح لفظي ، أي قُلْ كلاماً فيه معنى التنزيه ، وعلّقه باسم ربك ، فكل كلام يدل على تنزيه الله مشمول لهذا الأمر ولكن محاكاة لفظ القرآن أولى وأجمع بأن يقول : سُبحان الله . ويؤيد هذا ما قالته عائشة رضي الله عنها إنه لما نزل قوله تعالى : { فسبح بحمد ربك واستغفره } [ النصر : 3 ] كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده : « سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن » أي يتأوله على إرادة ألفاظه .
والباء الداخلة على { اسم } زائدة لتوكيد اللصوق ، أي اتصاللِ الفعل بمفعوله وذلك لوقوع الأمر بالتسبيح عقب ذكر عدة أمور تقتضيه حسبما دلت عليه فاء الترتيب فكان حقيقاً بالتقوية والحث عليه ، وهذا بخلاف قوله : { سبح اسم ربك الأعلى } [ الأعلى : 1 ] لوقوعه في صدر جملته كقوله : { يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً } [ الأحزاب : 41 ، 42 ] .
وهذا الأمر شامل للمسلمين بقرينة أن القرآن متلوّ لهم وأن ما تفرع الأمر عليه لا يختص علمه بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما أُمر بالتسبيح لأجله فكذلك من عَلمه من المسلمين .
والمعنى : إذ علمتم ما أنزلنا من الدلائل وتذكرتم ما في ذلك من النعم فنزهوا الله وعظّموه بقُصارى ما تستطيعون .
و { العظيم } صَالح لأن يجعل وصفاً ل { ربك } ، وهو عظيم بمعنى ثبوت جميع الكمال له وهذا مجاز شائع ملحق بالحقيقة ؛ وصالح لأن يكون وصفاً ل { اسم } والاسم عظيم عظمة مجازية ليُمْنه ولعظمة المسمّى به .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فسبح يا محمد بذكر ربك العظيم، وتسميته.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) والمراد به جميع المكلفين بأن "فسبح بحمد ربك العظيم " أي نزه الله تعالى عما لا يليق به، وأدعه باسمه العظيم...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
...كأنه أرشده إلى الاشتغال بتنزيه الرب وتسبيحه وتقديسه حين لزم الكفار الحجة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
و {العظيم} صفة للمضاف أو للمضاف إليه. والمعنى: أنه لما ذكر ما دل على قدرته وإنعامه على عباده قال: فأحدث التسبيح وهو أن يقول: سبحان الله، إمّا تنزيهاً له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته ويكفرون نعمته، وإما تعجباً من أمرهم في غمط آلائه وأياديه الظاهرة، وإما شكراً لله على النعم التي عدّها ونبه عليها.
التسبيح: التنزيه عما لا يليق به فما فائدة ذكر الاسم ولم يقل: فسبح بربك العظيم؟ فنقول الجواب عنه من وجهين؛
(أحدهما) هو المشهور وهو أن الاسم مقحم، وعلى هذا الجواب فنقول: فيه فائدة زيادة التعظيم، لأن من عظم عظيما وبالغ في تعظيمه لم يذكر اسمه إلا وعظمه، فلا يذكر اسمه في موضع وضيع ولا على وجه الاتفاق كيفما اتفق، وذلك لأن من يعظم شخصا عند حضوره ربما لا يعظمه عند غيبته فيذكره باسم علمه، فإن كان بمحضر منه لا يقول ذلك، فإذا عظم عنده لا يذكره في حضوره وغيبته إلا بأوصاف العظمة... أن يكون المراد بذكر ربك، أي إذا قلت: وتولوا، فسبح ربك بذكر اسمه بين قومك واشتغل بالتبليغ، والمعنى اذكره باللسان والقلب وبين وصفه لهم وإن لم يقبلوا فإنك مقبل على شغلك الذي هو التبليغ، ولو قال: فسبح ربك، ما أفاد الذكر لهم، وكان ينبئ عن التسبيح بالقلب، ولما قال: فسبح باسم ربك، والاسم هو الذي يذكر لفظا دل على أنه مأمور بالذكر اللساني وليس له أن يقتصر على الذكر القلبي ويحتمل أن يقال: (فسبح) مبتدئا باسم ربك العظيم فلا تكون الباء زائدة.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ووصف تعالى نفسه بالعظيم، إذ من هذه أفعاله تدل على عظمته وكبريائه وانفراده بالخلق والإنشاء...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فسبح} أي أوقع التنزيه العظيم عن كل شائبة نقص من ترك البعث وغيره ولا سيما بعد بلوغ هذه الأدلة إلى حد المحسوس تسبيح متعجب من آثار قدرته الدالة على تناهي عظمته وتسبيح شكر له وتعظيم له وإكبار وتنزيه عما يقول الجاحدون وتعجيب منهم مقتدياً بجميع ما في السماوات...ولما كان تعظيم الاسم أقعد في تعظيم المسمى قال: {باسم} أي متلبساً بذكر اسم {ربك} أي المحسن بعد التربية إليك بهذا البيان الأعظم بما خصك به مما لم يعطه أحداً غيرك، وأثبتوا ألف الوصل هنا لأنه لم يكثر دوره كثرته في البسملة منها وحذفوه منها لكثرة دورها وهم شأنهم الإيجاز وتقليل الكثير إذا عرف معناه، وهذا معروف لا يجهل، وإثبات ما أثبت من أشكاله مما لا يكثر دليل على الحذف منه، وكذا لا تحذف الألف مع غير الباء في اسم الله ولا مع الباء في غير الجلالة من الأسماء لما تقدم من العلة. ولما كان المقام للتعظيم قال: {العظيم} الذي ملأ الأكوان كلها عظمة، فلا شيء منها إلا وهو مملوء بعظمته تنزهاً عن أن تلحقه شائبة نقص أو يفوته شيء من كمال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا الأمر شامل للمسلمين بقرينة أن القرآن متلوّ لهم وأن ما تفرع الأمر عليه لا يختص علمه بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما أُمر بالتسبيح لأجله فكذلك من عَلمه من المسلمين. والمعنى: إذ علمتم ما أنزلنا من الدلائل وتذكرتم ما في ذلك من النعم فنزهوا الله وعظّموه بقُصارى ما تستطيعون. و {العظيم} صَالح لأن يجعل وصفاً ل {ربك}، وهو عظيم بمعنى ثبوت جميع الكمال له وهذا مجاز شائع ملحق بالحقيقة؛ وصالح لأن يكون وصفاً ل {اسم} والاسم عظيم عظمة مجازية ليُمْنه ولعظمة المسمّى به.