المراد بالإِنسان فى قوله - تعالى - : { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً . إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً . وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً } جنسه لافرد معين منه ، كما فى قوله - تعالى - : { والعصر . إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ . إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات . . } وكما فى قوله - سبحانه - : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } ويدخل فيه الكافر دخولا أولياً ، لأن معظم الصفات التى استثنيت بعد ذلك من صفات المؤمنين الصادقين ، وعلى رأسها قوله - سبحانه - : { إِلاَّ المصلين } .
وقوله : { هَلُوعاً } صيغة مبالغة من الهلع ، وهو إفراط النفس ، وخروجها عن التوسط والاعتدال ، عندما ينزل بها ما يضرها ، أو عند ما تنال ما يسرها .
والمراد بالشر : ما يشمل الفقر والمرض وغيرهما مما يتأذى به الإِنسان .
والمراد بالخير : ما يشمل الغنى والصحة وغير ذلك مما يحبه الإِنسان ، وتميل إليه نفسه .
والجزوع : هو الكثير الجزع . أى : الخوف . والمنوع : هو الكثير المنع لنعم الله - تعالى - وعدم إعطاء شئ منها للمتحاجين إليها .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً } الهلع : سرعة الجزع عند مس المكروه ، وسرعة المنع عند مس الخير ، من قولهم : ناقة هلوع ، أى : سريعة السير .
وسئل ابن عباس عن الهلوع فقال : هو كما قال الله - تعالى - : { إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً . وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً } .
ولا تفسير أبين من تفسيره - سبحانه - .
والإِنسان : المراد به الجنس ، أو الكافر . . وأل فى الشر والخير للجنس - أيضا .
والتعبير بقوله : { خُلِقَ هَلُوعاً } يشير إلى أن جنس الإِنسان - إلا من عصم الله - مفطور ومطبوع ، على أنه إذا أصابه الشر جزع ، وإذا مسه الخير بخل . . وأن هاتين الصفتين ليستا من الصفات التى يحبها الله - تعالى - بدليل أنه - سبحانه - قد استثنى المصلين وغيرهم من التلبس بهاتين الصفتين .
وبدليل أن من صفات المؤمن الصادق أن يكون شكورا عند الرخاء صبورا عند الضراء .
وفى الحديث الشريف ، يقول صلى الله عليه وسلم : " شر ما فى الرجل : شح هالع ، وجبن خالع " . وفى حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم : " عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته صبر فكان خيرا له " .
قال الجمل : وقوله : { جَزُوعاً } و { مَنُوعاً } فيهما ثلاثة أوجه : أحدها : أنهما منصوبان على الحال فى الضمير فى { هَلُوعاً } ، وهو العامل فيهما . والتقدير : هلوعا حال كونه جزوعا وقت مس الشر ، ومنوعا وقت مس الخير : الثانى : أنهما خبران لكان أو صار مضمرة . أى : إذا مسه الشر كان أوصار جزوعا ، وإذا مسه الخير كان أوصار منوعا .
والآن وقد انتهى من تصوير الهول في مشاهد ذلك اليوم ، وفي صورة ذلك العذاب ؛ فإنه يتجه إلى تصوير حقيقة النفس البشرية في مواجهة الشر والخير ، في حالتي إيمانها وخلوها من الإيمان . ويقرر مصير المؤمنين كما قرر مصير المجرمين :
( إن الإنسان خلق هلوعا : إذا مسه الشر جزوعا ، وإذا مسه الخير منوعا . إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون . والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم . والذين يصدقون بيوم الدين . والذين هم من عذاب ربهم مشفقون . إن عذاب ربهم غير مأمون . والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم بشهاداتهم قائمون . والذين هم على صلاتهم يحافظون . أولئك في جنات مكرمون ) .
وصورة الإنسان - عند خواء قلبه من الإيمان - كما يرسمها القرآن صورة عجيبة في صدقها ودقتها وتعبيرها الكامل عن الملامح الأصيلة في هذا المخلوق ؛ والتي لا يعصمه منها ولا يرفعه عنها إلا العنصر الإيماني ، الذي يصله بمصدر يجد عنده الطمأنينة التي تمسك به من الجزع عند ملاقاة الشر ، ومن الشح عند امتلاك الخير .
( إن الإنسان خلق هلوعا : إذا مسه الشر جزوعا . وإذا مسه الخير منوعا ) . .
لكأنما كل كلمة لمسة من ريشة مبدعة تضع خطا في ملامح هذا الإنسان . حتى إذا اكتملت الآيات الثلاث القصار المعدودة الكلمات نطقت الصورة ونبضت بالحياة . وانتفض من خلالها الإنسان بسماته وملامحه الثابتة . هلوعا . . جزوعا عند مس الشر ، يتألم للذعته ، ويجزع لوقعه ، ويحسب أنه دائم لا كاشف له . ويظن اللحظة الحاضرة سرمدا مضروبا عليه ؛ ويحبس نفسه بأوهامه في قمقم من هذه اللحظة وما فيها من الشر الواقع به . فلا يتصور أن هناك فرجا ؛ ولا يتوقع من الله تغييرا . ومن ثم يأكله الجزع ، ويمزقه الهلع . ذلك أنه لا يأوي إلى ركن ركين يشد من عزمه ، ويعلق به رجاءه وأمله . . منوعا للخير إذا قدر عليه . يحسب أنه من كده وكسبه فيضن به على غيره ، ويحتجنه لشخصه ، ويصبح أسير ما ملك منه ، مستعبدا للحرص عليه ! ذلك أنه لا يدرك حقيقة الرزق ودوره هو فيه . ولا يتطلع إلى خير منه عند ربه وهو منقطع عنه خاوي القلب من الشعور به . . فهو هلوع في الحالتين . . هلوع من الشر . هلوع على الخير . . وهي صورة بائسة للإنسان ، حين يخلو قلبه من الإيمان .
ومن ثم يبدو الإيمان بالله مسألة ضخمة في حياة الإنسان . لا كلمة تقال باللسان ، ولا شعائر تعبدية تقام . إنه حالة نفس ومنهج حياة ، وتصور كامل للقيم والأحداث والأحوال . وحين يصبح القلب خاويا من هذا المقوم فإنه يتأرجح ويهتز وتتناوبه الرياح كالريشة ! ويبيت في قلق وخوف دائم ، سواء أصابه الشر فجزع ، أم أصابه الخير فمنع . فأما حين يعمره الإيمان فهو منه في طمأنينة وعافية ، لأنه متصل بمصدر الأحداث ومدبر الأحوال ؛ مطمئن إلى قدره شاعر برحمته ، مقدر لابتلائه ، متطلع دائما إلى فرجه من الضيق ، ويسره من العسر . متجه إليه بالخير ، عالم أنه ينفق مما رزقه ، وأنه مجزي على ما أنفق في سبيله ، معوض عنه في الدنيا والآخرة . . فالإيمان كسب في الدنيا يتحقق قبل جزاء الآخرة ، يتحقق بالراحة والطمأنينة والثبات والاستقرار طوال رحلة الحياة الدنيا .
والمقصود من التذييل هو قوله : { وإذا مسَّه الخير منوعاً } وأما قوله : { إذا مسه الشر جزوعاً } فتمهيد وتتميم لحالتيه .
فالمراد بالإِنسان : جنس الإِنسان لاَ فرد معيّن كقوله تعالى : { إن الإِنسان ليطْغَى أن رآه استغنى } [ العلق : 67 ] وقوله : { خلق الإِنسان من عَجَل } [ الأنبياء : 37 ] ، ونظائر ذلك كثيرة في القرآن .
وهلوع : فعول مثال مبالغة للاتصاف بالهلَع .
والهلع لفظ غامض من غوامض اللّغة قد تساءل العلماء عنه ، قال « الكشاف » : « وعن أحمد بن يحيى ( هو ثعلب ) قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر{[436]} : ما الهلع ؟ فقلت : قد فسره الله ولا يكون تفسير أبْيَنَ من تفسيره وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس » اه . فسارت كلمة ثعلب مسيراً أقنع كثيراً من اللغويين عن زيادة الضبط لمعنى الهلع . وهي كلمة لا تخلو عن تسامح وقلة تحديد للمعنى لأنه إذا كان قول الله تعالى : { إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً } تفسيراً لمدلول الجزوع ، تعيّن أن يكون مدلول الكلمة معنًى مركباً من معنيي الجملتين لتكون الجملتان تفسيراً له ، وظاهر أن المعنيين ليس بينهما تلازم ، وكثيراً من أيمة اللغة فسر الهلع بالجزع ، أو بشدة الجزع ، أو بأفحش الجزع ، والجزع : أثر من آثار الهلع وليس عينه ، فإن ذلك لا يستقيم في قول عمرو بن معد يكرب :
ما إن جَزِعْتُ ولا هَلِعْتُ *** ولا يَرُدُّ بُكَايَ زَنْدَا
إذ عَطف نفي الهلع على نفي الجزع ، ولو كان الهلع هو الجزع لم يحسن العطف ، ولو كان الهلع أشد الجزع كان عطف نفيه على نفي الجزع حشواً . ولذلك تكلّف المرزوقي في « شرح الحماسة » لمعنى البيت تكلفاً لم يُغن عنه شيئاً قال : فكأنه قال : ما حَزنت عليه حزناً هَيِّناً قريباً ولا فظيعاً شديداً ، وهذا نفي للحزن رأساً كقولك : ما رأيت صغيرهم ولا كبيرهم اه .
والذي استخلصته من تتبع استعمالات كلمة الهلع أن الهلع قلة إمساك النفس عند اعتراء ما يُحزنها أو ما يسرها أو عند توقع ذلك والإشفاققِ منه . وأما الجزع فمن آثار الهلع ، وقد فسر بعض أهل اللغة الهلع بالشره ، وبعضهم بالضجر ، وبعضهم بالشح ، وبعضهم بالجوع ، وبعضهم بالجبن عند اللقاء .
وما ذكرناه في ضبطه يَجمع هذه المعاني ويريك أنها آثار لصفة الهلع . ومعنى { خُلق هلوعاً } : أن الهلع طبيعة كامنة فيه مع خلقه تظهر عند ابتداء شعوره بالنافع والمضار فهو من طباعه المخلوقة كغيرها من طباعه البشرية ، إذ ليس في تَعلُّق الحال بعاملها دلالة على قصر العامل عليها ، ولا في اتصاف صاحب الحال بالحال دلالة على أنه لا صفة له غيرها ، وقد تكون للشيء الحالةَ وضدها باختلاف الأزمان والدواعي ، وبذلك يستقيم تعلق النهي عن حاللٍ مع تَحقق تمكن ضدها من المنهي لأن عليه أن يروض نفسه على مقاومة النقائص وإزالتها عنه ، وإِذْ ذَكَر الله الهلع هنا عقب مَذَمَّة الجمع والإِيعاء ، فقد أشعر بأن الإِنسان يستطيع أن يكف عن هلعه إذا تدبر في العواقب فيكون في قوله : { خُلق هلوعاً } كناية بالخَلْق عن تمكن ذلك الخُلق منه وغلبته على نفسه .
والمعنى : أن من مقتضى تركيب الإِدراك البشري أن يحدث فيه الهلع .
بيان ذلك أن تركيب المدارك البشرية رُكِّز بحكمة دقيقة تجعلها قادرة على الفعل والكف ، وساعية إلى المُلائم ومعرضة عن المنافر . وجعلت فيها قوى متضادة الآثار يتصرف العقل والإِدراك في استخدامها كما يُجب في حدود المقدرة البدنية التي أُعطها النوع والتي أعطيها أفراد النوع ، كل ذلك ليَصلُح الإِنسانُ لإِعمار هذا العالم الأرضي الذي جعله الله خليفة فيه ليصلحه إصلاحاً يشمله ويشمل من معه في هذا العالم إعداداً لصلاحيته لإعمار عالم الخلود ، ثم جعل له إدراكاً يميز الفرق بين آثار الموجودات وآثار أفعالها بين النافع منها والضار والذي لا نفع فيه ولا ضر . وخلق فيه إلهاماً يُحِب النافع ويكرهَ الضار ، غير أن اختلاط الوصفين في بعض الأفعال وبعض الذوات قد يُريه الحال النافع منها ولا يريه الحال الضارّ فيبْتغي ما يظنه نافعاً غير شاعر بما في مطاويه من أضرار في العاجل والآجل ، أو شاعراً بذلك ولكن شَغَفَه بحصول النفع العاجل يرجِّح عنده تناوله الآن لعدم صبره على تركه مقدِّراً معاذيرَ أو حِيَلاً يقتحم بها ما فيه من ضر آجل . وإِن اختلاط القوى الباطنية مع حركات التفكير قد تستر عنْه ضُرَّ الضار ونفعَ النافع فلا يهتدي إلى ما ينبغي سلوكه أو تجنبه ، وقد لا تستر عنه ذلك ولكنها تُحدث فيه إيثاراً لاتباع الضار لملاءمة فيه ولو في وقت أو عند عارض ، إعراضاً عن اتباع النافع لكلفةٍ في فعله أو منافرة لوجدانه ، وذلك من اشتمال تركيب قُواه الباعثة والصارفة وآلاتها التي بها تعمل وتدفع على شيء من التعاكس في أعمالها ، فحدثت من هذا التركيب والبديع صلاحية للوفاء بالتدبير الصالح المنوط بعهدة الإنسان ، وصلاحيةً لإِفساد ذلك أو بعثرته .
غير أن الله جعل للإِنسان عقلاً وحكمة إن هو أحسن استعمالهما نَخَلَتْ صفاته ، وثقَّفت من قناتِه ، ولم يُخْلِه من دعاة إلى الخير يصفون له كيف يَريض جامح نفْسه ، وكيف يُوفق بين إدراكه وحِسّه ، وهؤلاء هم الرسل والأنبياء والحكماء .
فإذا أُخبر عن الإِنسان بشدة تلبسه ببعض النقائص وجُعل ذلك في قالب أنه جبل عليه فالمقصود من ذلك : إلقاء تَبِعة ذلك عليه لأنه فرط في إِراضة نفسه على ما فيها من جبلة الخير ، وأرخى لها العنان إلى غاية الشر ، وفرط في نصائح الشرائع والحكماء .
وإذا أُسند ما يأتيه الإِنسان من الخير إلى الله تعالى فالمقصود : التنبيه إلى نعمة الله عليه بخلق القوة الجالبة للخير فيه ، ونعمة إرشاده وإيقاظه إلى الحق ، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [ النساء : 79 ] عقب قوله : { قلْ كلٌّ من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } [ النساء : 78 ] . وفي هذا المجال زلت أفهام المعتزلة ، وحَلِكَتْ عليهم الأجواء ، ففكروا وقدَّروا ، وما استطاعوا مخلصاً وما قدَروا .
واعلم أن كلمة ( خُلق الإنسان ) إذا تعلق بها ما ليس من المواد مثل { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمْشاج } [ الإنسان : 2 ] بل كان من الأخلاق والغرائز قد يُعنى بها التنبيه على جبلة الإِنسان وأنها تسرع إلى الاعتلاق بمشاعره عند تصرفاته تعريضاً بذلك لوجوب الحذر من غوائلها نحو { خلق الإنسان من عَجل } [ الأنبياء : 37 ] { إن الإِنسان خلق هلوعاً } ، وقد ترد للعذر والرفق نحو قوله : { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإِنسان ضعيفاً } [ النساء : 28 ] ، وقد ترد لبيان أصل ما فُطر عليه الإِنسان ومَا طرأ عليه من سوء تصرفه في أفعاله كما في قوله تعالى : { لقد خلقنا الإِنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين } [ التين : 45 ] ففعل الخلق من كذا مستعار لكثرة الملابسة . قال عروة بن أذَيْنَة :
إن التي زَعَمَتْ فؤادَك ملّها *** خُلِقَتْ هواك كما خُلِقْتَ هوًى لها
أراد إبطال أن يكون ملَّها بحجة أنها خُلقت حبيبة له كما خُلق محبوبها ، أي إن محبته إياها لا تنفك عنه .
والهلع : صفة غير محمودة ، فوصف الإِنسان هنا بها لوْم عليه في تقصيره عن التخلق بدفع آثارها ، ولذلك ذيل به قوله : { وجمع فأوعى } [ المعارج : 18 ] على كلا معنييه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعته فقال: {إذا مسه الشر} يقول: إذا أصابه {جزوعا}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إذا قلّ ماله وناله الفقر والعدم فهو جزوع من ذلك لا صبر له عليه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إذا مسه الشر جزوعا} {وإذا مسه الخير منوعا} وهذا أيضا مثل الأول، لأن الذي حمله على المنع شدة حبه إياه، والذي حمله على الجزع ما مسه من الضر والشر، فجزعت نفسه لذلك، لأنها أنشئت نافرة الضر ومبغضة له. وقال الله عز وجل: {وكان الإنسان عجولا} [الإسراء: 11] وقال في موضع آخر: {وكان الإنسان قتورا} [الإسراء: 100] أي لا يسخو على إخراج ما في يديه. ففي هذه الآيات أنبأ أن الإنسان خلق على هذه الأحوال: قتورا عجولا هلوعا. فلما أنشئ على حب ما ينفعه وبغض ما يكرهه، ويتألم به، علم أنه خلق على هذه للمحنة. فمن تفكر في ما وعد الله تعالى من النعم لمن قام بوفاء ما أمره به حمله ذلك على التسارع في الخيرات وترك ما يحبه في الدنيا، يسأل الموعود في الآخرة، إذ هو في الأصل أنشئ محبا لما يتلذذ به. ومن تذكر ما أوعد من العذاب بما يعطي نفسه من الشهوات من معاصي الله تعالى وبما يمنع من حقوق الله تعالى الواجبة في ماله سهل عليه ترك الشهوات، وخف عليه بذل ما طلب منه لئلا يحل به ما ينغص عيشه من الآلام والمكاره. والأصل أن الإنسان، وإن كان مطبوعا على هذه الأخلاق الذميمة من البخل والإقتار والعجلة، وجبل عليها، فقد ملك رياضة نفسه، ويمكنه أن يستخرجها من تلك الطباع الذميمة إلى أضدادها من الأخلاق الحميدة والشمائل المرضية، فلزمه القيام بذلك. ألا ترى أنه يتهيأ له أن يقوم برياضة الدواب والسباع، فيخرجها بالرياضة عن طباعها التي أنشئت عليها من النفار عن الخلق والامتناع عن الانقياد، حتى تصير منقادة للخلق ذليلة لهم، فيتهيأ لهم الاستمتاع والتوصل إلى منافعها؟ فكذلك الإنسان إذا قام برياضة نفسه أمكنه أن يخرجها عن خلقتها، فتصير مطيعة له، فيخف عليها بذل ما يطلب منها، ويسهل عليها تحمل ما كان يشتد عليها. ثم الأصل أن المرء، وإن جبل على حب ما يتلذذ به وبغض ما يتألم، ويتوجع، فقد جبل أيضا على ترك ما هو فيه من اللذة للذة هي أعظم منها وعلى التصبر لاحتمال الأذى والمكروه ليتخلص مما هو أعظم من ذلك المكروه والألم. وإذا كان كذلك فهو إذا قابل نعيم الدنيا بنعيم الآخرة وأقرب اللذتين بأبعدهما، فرأى لذة الآخرة أعظم وأبقى، خف عليه ترق أقربهما لأبعدهما وأقلهما لأكثرهما، وإذا قابل مكروه الآخرة وعذابها بعذاب الآخرة، فرأى عذاب الآخرة أشد وأبقى، خف عليه تحمل المكاره في الدنيا، فهذا السبب الذي ذكرنا مما يتوصل به إلى رياضة النفس، والذي يدل على أن المرء قد يخف عليه تحمل الشدائد وترك اللذات الحاضرة لما يأمل من اللذات الآجلة أنك ترى المرء قد يهون عليه الضرب في الأرض وقطع الأسفار وتحمل المؤن وركوب الأهوال والفظائع والانقطاع عن اللذات، كالذي يخرج للتجارة من بلده إلى بلاد نائية لما يرجو من النفع والربح في ذلك، فيتحمل ما يمسه من المكاره والمؤن لما يطمع من نيل اللذات التي تركها. فعلى ذلك إذا تفكر في نعيم الآخرة، وتفكر في عقابها سهل عليه ترك اللذات الحاضرة وخف عليه تحمل المكاره في الدنيا. ووجه آخر أنه لما جبل على حب اللذات وبغض المكاره، أمر أن يجعل ما يحبه من العاجل آجلا، فيكون شغله أبدا في ما يوصله على نعيم الآجل، وأمر أن يجعل هربه عن الآلام الآجلة عاجلا فيجتهد في ما فيه التخلص والنجاة من تلك الآلام، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الجزع: ظهور الفزع بحال تنبئ عنه.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قال ابن كيسان: خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويهرب مما يكره، ثم تعبده بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 19]
وقوله تعالى: {إن الإنسان} عموم لاسم الجنس، لكن الإشارة هنا إلى الكفار، لأن الأمر فيهم وكيد كثير، والهلع جزع واضطراب يعتري الإنسان عند المخاوف وعند المطامع ونحوه قوله عليه السلام: «شر ما في الإنسان شح هالع وجبن خالع».
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إذا مسه} أي أدنى مس {الشر} أي هذا الجنس وهو ما تطاير شرره من الضر {جزوعاً} أي عظيم الجزع، وهو ضد الصبر بحيث يكاد صاحبه ينقد نصفين ويتفتت.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{جَزُوعاً} أي مبالغاً في الجزع مكثراً منه، والجزع -قال الراغب- أبلغ من الحزن، فإن الحزن عام، والجزع حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه، وأصله قطع الحبل من نصفه، يقال جزعه فانجزع ولتصور الانقطاع فيه قيل جزع الوادي لمنقطعه، والانقطاع اللون بتغيره قيل للخرز المتلون جزع، وعنه استعير قولهم لحم مجزع إذ كان ذا لونين، وقيل للبسرة إذا بلغ الارطاب نصفها مجزعة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 19]
والآن وقد انتهى من تصوير الهول في مشاهد ذلك اليوم، وفي صورة ذلك العذاب؛ فإنه يتجه إلى تصوير حقيقة النفس البشرية في مواجهة الشر والخير، في حالتي إيمانها وخلوها من الإيمان. ويقرر مصير المؤمنين كما قرر مصير المجرمين...
وصورة الإنسان -عند خواء قلبه من الإيمان- كما يرسمها القرآن صورة عجيبة في صدقها ودقتها وتعبيرها الكامل عن الملامح الأصيلة في هذا المخلوق؛ والتي لا يعصمه منها ولا يرفعه عنها إلا العنصر الإيماني، الذي يصله بمصدر يجد عنده الطمأنينة التي تمسك به من الجزع عند ملاقاة الشر، ومن الشح عند امتلاك الخير.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يراد ب «الهلوع» كما يقول المفسّرون وأصحاب اللغة «الحريص»، وآخرون فسّروه بالجزع، وبناءً على التّفسير الأوّل فإنّه يشار إلى ثلاثة أُمور رذيلة يتصف بها هؤلاء وهي: الحرص، والجزع، والبخل، وللتّفسير الثّاني صفتان هما: الجزع، والبخل، لأنّ الثّانية والثّالثة هي تفسير لمعنى الهلوع. وهنا احتمال آخر وهو أنّ المعنيين يجتمعان في هذه الكلمة، لأنّ هاتين الصفتين متلازمتان مع بعضهما، فالناس الحريصون غالباً ما يكونون بخلاء، ويجزعون عند الشدائد، بالعكس أيضاً صحيح. وهنا يطرح هذا السؤال، وهو كيف أنّ اللّه خلق الإنسان للسعادة والكمال وجعل فيه الشرّ والسوء؟ وهل بمكن أن يخلق اللّه شيئاً ذا متصفاً بصفة، ثمّ وبعد يذم خلقه؟ بالإضافة إلى ذلك فإنّ القرآن الكريم يصرّح في سورة التين الآية (4): (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم). بالتأكيد ليس من أن ظاهر الإنسان حسن وباطنه سيء، بل إنّ الخلقة الكلية للإنسان هي في صورة «أحسن تقويم»، وهناك كذلك آيات أُخرى تمدح المقام الرفيع للإنسان، فكيف تتفق هذه الآيات مع الآية التي نحن بصددها؟ أجوبة هذه الأسئلة تتّضح بالالتفات إلى نقطة واحدة، وهي أنّ اللّه خلق القوى والغرائز والصفات في الإنسان كوسائل لتكامل الإنسان وبلوغ سعادته، لكن عندما يستخدمها الإنسان في الطريق المنحرف ويسيء تدبيرها والاستفادة منها فستكون العاقبة هي التعاسة والشرّ والفساد، فمثلاً الحرص هو الذي لا يتيح فرصة للإنسان للتوقف عن السعي والحركة والاكتفاء بما لديه من نعمة وهو العطش المحرق الذي يسيطر على الإنسان، فلو أنّ هذه الصفة وقعت في طريق العلم لوجدنا الإنسان حريصاً على التعلم، أو بعبارة أخرى يتعطش العلم ويعشقه، وبذلك سوف يكون سبباً لكماله، وأمّا إذا أخذت مسيرها في الماديات فإنّها ستكون سبباً للتعاسة والبخل، وبتعبير آخر: إنّ هذه الصفة فرع من فروع حبّ الذات، وحبّ الذات غريزة توصل الإنسان إلى الكمال، ولكن إذا انحرف في مسيره فإنّه سوف يجرّه إلى الحسد والبخل وإلى غير ذلك. وفي هذا الشأن هناك مواهب أُخرى أيضاً بهذا الشكل: إنّ اللّه أودع قدرة عظيمة في قلب الذرة، من المؤكد أنّها نافعة ومفيدة، ولكن إذا ما أسيء استخدام هذه القدرة وصنع من ذلك القنابل الفتاكة ولم يستخدم في توليد الطاقة الكهربائية والوسائل الصناعية الأخرى، فسيكون مدعاة للشرّ والفساد، وبالتعمق فيما ذكرنا يمكن أن الجمع في ما ورد في الإنسان وذلك من خلال الآيات القرآنية المبيّنة لحالات الإنسان.