لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ْ } أي : لأجل عداوتهم للإيمان { إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ْ } أي : لأجل عداوتهم للإيمان وأهله .
فالوصف الذي جعلهم يعادونكم لأجله ويبغضونكم ، هو الإيمان ، فذبوا عن دينكم ، وانصروه واتخذوا من عاداه لكم عدوا ومن نصره لكم وليا ، واجعلوا الحكم يدور معه وجودا وعدما ، لا تجعلوا الولاية والعداوة ، طبيعية تميلون بهما ، حيثما مال الهوى ، وتتبعون فيهما النفس الأمارة بالسوء ، ولهذا :
ثم بين - سبحانه - أن عداوة هؤلاء المشركين ليست خاصة بالمؤمنين الذين يقمون معهم ، وإنما هي عداوة شاملة كل مؤمن مهما تباعد عنهم فقال - تعالى - : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وأولئك هُمُ المعتدون } .
أى : أن هؤلاء المشركين لا يراعون في أمر مؤمن يقدرون على الفتك به عهدا يحرم الغدر ، ولا قرابة تقتضى الود ، ولا ذمة توجب الوفاء خشية الذم . . وإنما يبيتون الحقد والعدر والأذى لكل مؤمن ، من غير أن يقيموا للعهود أو للفضائل وزنا .
وهذه الآية الكريمة أعم من قوله - تعالى - : قبل ذلك : { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } لأن هذه بينت أن عدوانهم على المؤمنين مقيد بظهورهم عليهم ، أما التي معنا فقد بينت أن عدوانهم ليست مقيدا بشئ ، فهم متى وجدوا الفرصة اهتبلوها في الاعتداء على المؤمنين ولأن التي معنا بينت ان عداوتهم قد شملت كل مؤمن مهما كان موضعه . أما الآية السابقة فهى تخاطب المؤمنين الذين كان بينهم وبين الشمركين الكثير من الحروب والدماء .
وقوله { وأولئك هُمُ المعتدون } تذييل قصد به ذمهم والتحقير في شأنهم .
أى : وأولئك المشركون الموصوفون بتلك الصفات السيئة هم المتجاوزون لحدود الله والخارجون على كل فضيلة ومكرمة .
( لايرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون )
فصفة الاعتداء أصيلة فيهم . . تبدأ من نقطة كرههم للإيمان ذاته وصدودهم عنه ؛ وتنتهي بالوقوف في وجهه ؛ وتربصهم بالمؤمنين ؛ وعدم مراعاتهم لعهد معهم ولا صلة ؛ إذا هم ظهروا عليهم ؛ وأمنوا بأسهم وقوتهم . وعندئذ يفعلون بهم الأفاعيل غير مراعين لعهد قائم ، ولا متحرجين ولا متذممين من منكر يأتونه معهم . . وهم آمنون . . !
القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً وَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : لا يتقي هؤلاء المشركون الذين أمرتكم أيها المؤمنون بقتلهم حيث وجدتموهم في قتل مؤمن لو قدورا عليه إلاّ وَلاَ ذِمّةً يقول : فلا تبقوا عليهم أيها المؤمنون ، كما لا يبقون عليكم لو ظهروا عليكم . وأُلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ يقول : المتجاوزون فيكم إلى ما ليس لهم بالظلم والاعتداء .
وقوله تعالى : { لا يرقبون } الآية ، وصف لهذه الطائفة المشترية يضعف ما ذهب إليه من قال إن قوله { اشتروا بآيات الله } هو في اليهود ، وقوله تعالى : { في مؤمن } إعلام بأن عداوتهم إنما هي بحسب الإيمان فقط ، وقوله أولاً { فيكم } كان يحتمل أن يظن ظان أن ذلك للإحن التي وقعت فزال هذا الاحتمال بقوله { في مؤمن } ، ثم وصفهم تعالى بالاعتداء والبداءة بالنقض للعهود والتعمق في الباطل .
{ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة }
يجوز أن تكون هذه الجملة بدلَ اشتمال من جملة : { إنهم ساء ما كانوا يعملون } [ التوبة : 9 ] لأنّ انتفاء مراعاة الإلّ والذمّة مع المؤمنين ممّا يشتمل عليه سوء عملهم ، ويجوز أن تكون استئنافاً ابتُدىء به للاهتمام بمضمون الجملة . وقد أفادت معنى أعمّ وأوسع ممّا أفاده قوله : { وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلّاً ولا ذمة } [ التوبة : 8 ] لأنّ إطلاق الحكم عن التقييد بشرط { إن يظهروا عليكم } [ التوبة : 8 ] يَفيد أنّ عدم مراعاتهم حقّ الحلف والعهد خُلُق متأصّل فيهم ، سواء كانوا أقويّاء أم مستضعفين ، وإنّ ذلك لسوء طويتهم للمؤمنين لأجل إيمانهم . والإلّ والذمّة تقدّما قريباً .
عطف على جملة : { لا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة } لمناسبة أنّ إثبات الاعتداء العظيم لهم ، نشأ عن الحقد ، الشيء الذي أضمروه للمؤمنين ، لا لشيء إلاّ لأنّهم مؤمنون كقوله تعالى : { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } [ البروج : 8 ] .
والقَصر إمّا أن يكون للمبالغة في اعتدائهم ، لأنّه اعتداء عظيم باطني على قوم حالفوهم وعاهدوهم ، ولم يُلحقوا بهم ضرّ مع تمكّنهم منه ، وإمّا أن يكون قصر قلب ، أي : هم المعتدون لا أنتمْ لأنّهم بَدَأوكم بنقض العهد في قضية خزاعة وبني الدِّيل من بكر بن وائِل ممّا كان سبباً في غزوة الفتح .