ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات المتعلقة بأحكام الأسرة بقوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون } .
أي : مثل هذا البيان الحكيم الواضح الذي بين الله لكم به الأحكام السابقة ، يبين لكم جميع آياته وأحكامه التي أنتم في حاجة إليها كلي تفهموا ما فيها وتعقلوه وتعملوا به فتنالوا السعادة في الدنيا والآخرة .
وإلى هنا تكون السورة قد بينت لنا في أكثر من عشرين آية بعض الأحكام التي تتعلق بالأسرة وصيانتها وسعادتها بأسلوب مؤثر حكيم وبطريقة تهدى إلى أفضل الأخلاق ، وأقوم العلاقات بين الأفراد والجماعات ، وإن المتأمل في هذه الآيات وما اشتملت عليه من توجيهات سامية ليوقن بأن هذا القرآن إنما هو من عند الله ، الذي شرع لعباده ما فيه صلاحهم وسعادتهم .
وبعد هذا البيان الحكيم عن الأسرة وما يتعلق بها من زواج وطلاق وغير ذلك ، ساق القرآن من القصص ما من شأنه أن يدعو إلى التذكر والاعتبار ويحرض على الجهاد في سبيل الله ، ويحمل المتأملين في توجيهاته على إقامة الأسرة على أقوى الدعائم ، وأفضل المبادئ التي بها تنال الأمم عزتها وكرامتها وسعادتها . فقال - تعالى - :
القول في تأويل قوله : ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، كما بينت لكم ما يلزمكم لأزواجكم ويلزم أزواجكم لكم ، أيها المؤمنون ، وعرفتكم أحكامي والحق الواجب لبعضكم على بعض في هذه الآيات ، فكذلك أبين لكم سائر الأحكام في آياتي التي أنزلتها على نبيي محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب ، لتعقلوا- أيها المؤمنون بي وبرسولي- حدودي ، فتفهموا اللازم لكم من فرائضي ، وتعرفوا بذلك ما فيه صلاح دينكم ودنياكم ، وعاجلكم وآجلكم ، فتعلموا به ليصلح ذات بينكم ، وتنالوا به الجزيل من ثوابي في معادكم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: كما بينت لكم ما يلزمكم لأزواجكم ويلزم أزواجكم لكم، أيها المؤمنون، وعرفتكم أحكامي والحق الواجب لبعضكم على بعض في هذه الآيات، فكذلك أبين لكم سائر الأحكام في آياتي التي أنزلتها على نبيي محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب، لتعقلوا- أيها المؤمنون بي وبرسولي- حدودي، فتفهموا اللازم لكم من فرائضي، وتعرفوا بذلك ما فيه صلاح دينكم ودنياكم، وعاجلكم وآجلكم، فتعلموا به ليصلح ذات بينكم، وتنالوا به الجزيل من ثوابي في معادكم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
التشبيه بقوله:"كذلك يبين الله" وقع على البيان الذى تقدم في الأحكام والحجاج والمواعظ والآداب وغير ذلك مما يحتاج الناس إلى عمله، والعمل عليه في أمر دينهم ودنياهم، شبه البيان الذي يأتي بالبيان الماضي.
والبيان: هو الادلة التي يفرق بها بين الحق، والباطل. وعبر عنه بأنه فعل يظهر به أمر على طريقة حسنة، وليس كلما يظهر به غيره ما لا يأتيه. وقد يكون ذلك بكلام فاسد يفهم به المراد، فلا يستحق صفة بيان.
والآية هي: العلامة فيما كان من الامور العظيمة، لأن في الآية تفخيما ليس في العلامة.
"لعلكم تعقلون": لكي تعقلوا آيات الله بالبيان عنها. والعقل مجموع علوم ضرورية يميز بها بين القبيح، والحسن، ويمكن معها الاستدلال بالشاهد على الغائب...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
"لعلكم تعقلون": تفهمون وتفقهون...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ}: في إحلاله وتحريمه وفروضه وحدوده فيما أمركم به ونهاكم عنه بيَّنه ووضحه وفسره ولم يتركه مجملا في وقت احتياجكم إليه {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: تفهمون وتتدبرون...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بيّن سبحانه وتعالى هذه الأحكام هذا البيان الشافي كان كأن سائلاً قال: هل يبين غيرها مثلها؟ فقال: {كذلك} أي مثل هذا البيان {يبين الله} أي الذي له الحكمة البالغة لأنه المحيط بكل شيء {لكم آياته} أي المرئية بما يفصل لكم في آياته المسموعة {لعلكم تعقلون} أي لتكونوا على حال يرجى لكم معها التفكر في الآيات المسموعات والآيات المرئيات كما يفعل العقلاء فيهديكم ذلك إلى سواء السبيل؛
وقد كرر مثل هذا القول كثيراً وفصلت به الآيات تفصيلاً وكان –لعمري- يكفي الفطن السالم من مرض القلب وآفة الهوى إيراده مرة واحدة في الوثوق بمضمونه والركون إلى مدلوله، وإنما كرر تنبيهاً على بلاغة الآيات المختومة به وخروجها عن طوق البشر وقدرة المخلوق، وذلك أنهم كلما سمعوا شيئاً من ذلك وهم أهل السبق في البلاغة والظفر على جميع أرباب الفصاحة والبراعة فرأوه فائتاً لقواهم وبعيداً من قدرهم خطر لهم السؤال عن مثل ذلك البيان ناسين لما تقدم من صادق الوعد وثابت القول بأن الكل على هذا المنوال البديع المثال البعيد المنال، لما اعتراهم من دهش العقول وانبهار الألباب والفهوم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم ختم الله تعالى هذه الأحكام بقوله {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون} أي مضت سنته تعالى بأن يبين لكم آياته في أحكام دينه مثل هذا النحو من البيان، وهو أن يذكر الحكم وفائدته ويقرنه بذكر الله والموعظة الحسنة التي تعين على العمل به، ليعدكم بذلك لكمال العقل فتتحروا الاستفادة من كل عمل فعليكم أن تعقلوا ما تخاطبون به لتكونوا على بصيرة من دينكم، عارفين بانطباق أحكامه على مصالحكم بما فيها من تزكية نفوسكم والتأليف بين قلوبكم، فتكونوا حقيقين بإقامتها والمحافظة عليها.
قال الأستاذ الإمام: ليس معنى العقل أن يجعل المعنى في حاشية من حواشي الدماغ، غير مستقر في الذهن ولا مؤثر في النفس، بل معناه أن يتدبر الشيء. ويتأمله حتى تذعن نفسه لما أودع فيه إذعانا يكون له تأثير في العمل، فمن لم يعقل الكلام بهذا المعنى فهو ميت وإن كان يزعم أنه حي ميت من عالم العقلاء، حي بالحياة الحيوانية وقد فهمنا هذه الأحكام ولكن ما عقلناها، ولو عقلناها لما أهملناها.
وأقول: أين هذه الطريقة المثلى في بيان الأحكام من طريق الكتب المعروفة عندنا بكتب الفقه، وهي غفل في الغالب من بيان فائدة الأحكام وانطباقها على مصالح البشر في كل زمان ومزجها بالوعظ والتذكير؟ وأين أهل التقليد من هدى القرآن؟ هو يذكر لنا الأحكام بأسلوب يعدنا للعقل، ويجعلنا من أهل البصيرة، وينهانا عن التقليد الأعمى، وهم يأمروننا بأن نخر على كلامهم وكلام أمثالهم صما وعميانا، ومن حاول منا الاهتداء بالكتاب العزيز وما بينه من السنة المتبعة أقاموا عليه النكير، ولعله لا يسلم من التبديع والتكفير، يزعمون أنهم بهذا يحافظون على الدين وما أضاع الدين إلا هذا، فإن بقينا على هذه التقاليد لا يبقى على هذا الدين أحد. فإننا نرى الناس يتسللون منه لواذا، وإذا رجعنا إلى العقل الذي هدانا الله تعالى إليه في هذه الآية وأمثالها رجي لنا أن نحيي ديننا فيكون دين العقل هو مرجع الأمم أجمعين، وهذا ما وعدنا الله تعالى به {ولتعلمن نبأه بعد حين} (ص: 88)...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لما بيّن تعالى هذه الأحكام العظيمة المشتملة على الحكمة والرحمة، امتن بها على عباده فقال: {كذلك يبين الله لكم آياته} أي: حدوده، وحلاله وحرامه والأحكام النافعة لكم، لعلكم تعقلونها فتعرفونها وتعرفون المقصود منها، فإن من عرف ذلك أوجب له العمل بها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الآية الثالثة تعقيب على الأحكام السابقة جميعا: {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون}.. كذلك.. كهذا البيان الذي سلف في هذه الأحكام.. وهو بيان محكم دقيق موح مؤثر.. كذلك يبين الله لكم آياته عسى أن تقودكم إلى التعقل والتدبر فيها، وفي الحكمة الكامنة وراءها، وفي الرحمة المتمثلة في ثناياها، وفي النعمة التي تتجلى فيها. نعمة التيسير والسماحة، مع الحسم والصرامة، ونعمة السلام الذي يفيض منها على الحياة. ولو تعقل الناس وتدبروا هذا المنهج الإلهي لكان لهم معه شأن.. هو شأن الطاعة والاستسلام والرضى والقبول.. والسلام الفائض في الأرواح والعقول...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون} بهذه الجملة الكريمة السامية ختم الله سبحانه وتعالى الآيات المتعلقة بأحكام الأسرة، وقد ابتدأ بيانها بقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون 221} (البقرة). و إن ذلك الختام الكريم فيه تصوير لبيان الله سبحانه وتعالى لأحكام الأسرة وشدة عنايته بأمرها، وتوضيح الأسس الصالحة التي تقوم عليها، والعدالة والمودة والرحمة التي تربط بين آحادها، وكيف فصل سبحانه القول فيها تفصيلا لم يفصله في غيرها من شئون الدين، فلم يبين الصلاة والزكاة والحج كما بين الله سبحانه في كتابه الكريم أحكام الأسرة والروابط التي تربط بين آحادها؛ لأن الأسرة قوام المجتمع الإسلامي الفاضل، فإذا تزلزلت اضطرب ميزان الاجتماع، و تهدمت أركانه.
{كذلك يبين الله لكم آياته} أي مثل هذا البيان القوي الواضح العالي الذي يوجه النفوس نحو المودة الرابطة، والرحمة العاطفة، والعدالة المنصفة، يبين الله سبحانه وتعالى آياته المتلوة، وآياته النفسية، وآياته الكونية، أي أن الله سبحانه وتعالى يبين دائما آياته المذكورة مثل البيان الذي يبين به أحكام الأسرة، فهذا التشبيه لتصوير بيان الله دائما لآياته بهذه الصورة التي يقرأها القارئ لكتاب الله في آيات النكاح، والطلاق، وما يعقبه من التسريح بإحسان أو التسريح الجميل كما عبر القرآن الكريم. {لعلكم تعقلون}.
وفي هذه العبارة السامية إشارة إلى الغاية من بيان الله سبحانه وتعالى لحقائق الشرع وتوجيه النظر إلى النفس وإلى الكون، وتلك الغاية هي أن يعقل الناس أي يفكروا بعقولهم، ويبعدوا عنها أرجاس الجاهلية، ويحرروها من ربقة التقاليد القديمة التي كانوا يعبرون عنها بقولهم: {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} (البقرة 170)
والتعبير بصيغة الرجاء، وهي {لعلكم تعقلون} هو في معنى التعليل أي لتعقلوا، لأن الرجاء من الله سبحانه وتعالى لا يكون على معناه الأصلي، أو يقال إن ذلك البيان من شأنه أن يرجى أن يعقلوا ويتفكروا، فالتعبير بلفظ يدل على الرجاء للإشارة إلى هذا المعنى الحكيم. هذا وإن أحكام الأسرة كما جاءت في الآيات الكريمة باعثة على التأمل وإحكام النظر، والإيمان بأن هذه الشريعة من عند اللطيف الخبير، والله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم...
وعندما نتأمل قول الحق من بعد ذلك: {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون} فنحن نعرف مما سبق أن الآيات هي الأمور العجيبة، والحق سبحانه وتعالى حين ينبه العقل إلى استقبال حكم بالتعقل يكون العقل المحض لو وجه فكره إلى دراسة أسباب هذا الموضوع فلن ينتهي إلا إلى هذا الحكم. ولذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى يترك لبعض المشادات في التعامل والثارات في الخصومة أن تخرج عن حكم ما شرع الله في أي شيء من الأشياء التي تقدمت، ثم يصيب المجتمع شر من المخالفة، وكأنه بذلك يؤكد حكمته في تشريع ما شرع. وإلا لو لم تحدث من المخالفات شرور لقال الناس: إنه لا داعي للتشريع. ولتركوا التشريع دون أن يصيبهم شر.
إذن فحين لا نلتزم بالتشريع فالمنطق والكمال الكوني أن تحدث الشرور؛ لأنه لو لم تحدث الشرور لاتهم الناس منهج الله وقالوا: إننا لم نلتزم يا رب بمنهجك، ومع ذلك لا شرور عندنا. فكأن الشرور التي نجدها في المجتمع تلفتنا إلى صدق الله وكمال حكمته في تحديد منهجه. وهكذا يكون المخالفون لمنهج الله مؤيدين لمنهج الله.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وتختم الآية الفصل بالإشارة إلى أنَّ بيان اللّه لآياته في تشريعاته يستهدف ربط الحياة بالخطّة المعتمدة على التأمّل والعقل، الذي هو هدف الرسالات جميعاً في ما تدعو إليه من مفاهيم وحلول. إيحاءات الآية: وربما نستوحي من ذلك، أنَّ اللّه يريد للعقل أن يتحرّك في عملية استلهام لآيات اللّه في الكون وفي نظام الإنسان وحركة الحياة، ليتفهّم من خلال ذلك القوانين والسنن الكونية والاجتماعية والحياتية التي أودعها اللّه في هذا النظام الكوني والإنساني، كما يتفهم من خلاله آيات اللّه التي تنظم للإنسان حياته القانونية في تشريعاته التي أوحى بها إلى رسله، فوضع له القواعد التي يستطيع من خلالها أن يحقّق التوازن في شؤون حياته الفردية والاجتماعية. فليس العقل حركة في التجريد الذهني الذي يتأمّل في أجواء المطلق، بل هو حركة في كلّ ما يتصل بالحياة الزوجية والعملية للإنسان، لأنَّ لكلّ شيء عقله الذي يوازن الأمور على أساس الحسابات الدقيقة في فهم الظاهرة والحركة والقانون. وقد نستوحي منها الدعوة إلى مواجهة التشريعات الإلهية بالفكر الذي ينطلق نحوها ليبحث في خلفياتها ومعطياتها وحدودها، ولا يكتفي بالتعبّد الجامد الذي يتقبّل الأشياء من دون أن يحاول إدراك خصائصها في حياة الإنسان، لأنَّ المكلّف الذي يتحرّك في امتثال التكليف، يتحرّك من موقع الوعي لمضمونها الروحي والعملي في المصالح والمفاسد النوعية...