القول في تأويل قوله تعالى : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ) :
اختلفت القرّاء في قراءة قوله ( عِبَادِنَا ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا ) على الجماع غير ابن كثير ، فإنه ذكر عنه أنه قرأه : " واذكر عبدنا " على التوحيد ، كأنه يوجه الكلام إلى أن إسحاق ويعقوب من ذرّية إبراهيم ، وأنهما ذُكِرا من بعده .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، سمع ابن عباس يقرأ : " واذكر عبدنا إن إبراهيم " قال : إنما ذكر إبراهيم ، ثم ذُكِر ولده بعده .
والصواب عنده من القراءة في ذلك ، قراءة من قرأه على الجماع ، على أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب بيان عن العباد ، وترجمة عنه ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
وقوله ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) ويعني بالأيدي : القوّة ، يقول : أهل القوّة على عبادة الله وطاعته . ويعني بالأبصار : أنهم أهل أبصار القلوب ، يعني به : أولى العقول للحقّ .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم في ذلك نحوًا مما قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله ( أُولِي الأيْدِي ) يقول : أولي القوّة والعبادة ، والأبْصَارِ يقول : الفقه في الدين .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) قال : فضِّلوا بالقوّة والعبادة .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور أنه قال في هذه الآية ( أُولِي الأيْدِي ) قال : القوّة .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد ، في قوله ( أُولِي الأيْدِي ) قال : القوّة في أمر الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد ( أُولِي الأيْدِي ) قال : الأيدي : القوّة في أمر الله ، ( وَالأبْصَارَ ) : العقول .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) قال : القوّة في طاعة الله ، ( وَالأبْصَارَ ) : قال : البصر في الحقّ .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) يقول : أعطوا قوة في العبادة ، وبصرًا في الدين .
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) قال : الأيدي : القوّة في طاعة الله ، والأبصار : البصر بعقولهم في دينهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله ( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) قال : الأيدي : القوّة ، والأبصار : العقول .
فإن قال لنا قائل : وما الأيدي من القوّة ، والأيدي إنما هي جمع يد ، واليد جارحة ، وما العقول من الأبصار ، وإنما الأبصار جمع بصر ؟ قيل : إن ذلك مثل ، وذلك أن باليد البطش ، وبالبطش تُعرف قوّة القويّ ، فلذلك قيل للقويّ : ذو يَدٍ ؛ وأما البصر ، فإنه عنى به بصر القلب ، وبه تنال معرفة الأشياء ، فلذلك قيل للرجل العالم بالشيء : يصير به . وقد يُمكن أن يكون عَنى بقوله ( أُولِي الأَيْدِي ) : أولي الأيدي عند الله بالأعمال الصالحة ، فجعل الله أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا أيديا لهم عند الله تمثيلا لها باليد ، تكون عند الرجل الآخر .
وقد ذُكر عن عبد الله أنه كان يقرؤه : " أولى الأيدِ " بغير ياء ، وقد يُحتمل أن يكون ذلك من التأييد ، وأن يكون بمعنى الأيدي ، ولكنه أسقط منه الياء ، كما قيل : يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِ ،
قرأ ابن كثير : «واذكر عبدنا » على الإفراد ، وهي قراءة ابن عباس وأهل مكة . وقرأ الباقون : «واذكر عبادنا » على الجمع ، فأما على هذه القراءة فدخل الثلاثة في الذكر وفي العبودية ، وأما على قراءة من قرأ «عبدنا » ، فقال مكي وغيره : دخلوا في الذكر ولم يدخلوا في العبودية إلا من غير هذه الآية وفي هذا نظر .
وتأول قوم من المتأولين من هذه الآية أن الذبيح { إسحاق } من حيث ذكره الله بعقب ذكر أيوب أنبياء امتحنهم بمحن كما امتحن أيوب ، ولم يذكر إسماعيل لأنه ممن لم يمتحن ، وهذا ضعيف كله وقرأ الجمهور : «أولي الأيدي » .
وقرأ الحسن والثقفي والأعمش وابن مسعود : «أولي الأيد » ، بحذف الياء ، فأما أولو فهو جمع ذو ، وأما القراءة الأولى ف «الأيدي » فيها عبارة عن القوة في طاعة الله ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وقالت فرقة بل هي عبارة عن القوة في طاعة الله ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وقالت فرقة بل هي عبارة عن إحسانهم في الدين وتقديمهم عند الله تعالى أعمال صدق ، فهي كالأيادي . وقالت فرقة : بل معناه : أولي الأيد والنعم التي أسداها الله إليهم من النبوءة والمكانة . وقال قوم المعنى : أيدي الجوارح ، والمراد الأيدي المتصرفة في الخير والأبصار الثاقبة فيه ، لا كالتي هي منهملة في جل الناس ، وأما من قرأ «الأيد » دون ياء فيحتمل أن يكون معناها معنى القراءة بالياء وحذفت تخفيفاً ، ومن حيث كانت الألف واللام تعاقب التنوين وجب أن تحذف معها كما تحذف مع التنوين . وقالت فرقة : معنى «الأيدي » ، القوة ، والمراد طاعة الله تعالى .
وقوله تعالى : { والأبصار } عبارة عن البصائر ، أي يبصرون الحقائق وينظرون بنور الله تعالى ، وبنحو هذا فسر الجميع .
القول فيه كالقول في نظائره لغةً ومعنى . وذِكر هؤلاء الثلاثة ذكر اقتداء وائتساء بهم ، فأما إبراهيم عليه السّلام فيما عرف من صبره على أذى قومه ، وإلقائه في النار ، وابتلائه بتكليف ذبح ابنه ، وأما ذِكر إسحاق ويعقوبَ فاستطراد بمناسبة ذكر إبراهيم ولما اشتركا به من الفضائل مع أبيهم التي يجمعها اشتراكهم في معنى قوله : { أُولي الأيدِي والأبصارِ } ليقتدي النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثتهم في القوة في إقامة الدين والبصيرة في حقائق الأمور .
وابتدىء بإبراهيم لتفضيله بمقام الرسالة والشريعة ، وعطف عليه ذكر ابنه وعطف على ابِنه ابنه يعقوب . وقرأ الجمهور { واذكر عبادنا } بصيغة الجمع على أن { إبراهيم } ومن عطف عليه كله عطف بيان . وقرأ ابن كثير { عَبدنا } بصيغة الإفراد على أن يكون { إِبْرَاهِيمَ } عطف بيان من { عبدنا } ويكون { إسحاق ويعقوب } عطف نسق على { عبدنا } . ومآل القراءتين متّحد .
و { الأيدي } : جمع يد بمعنى القوة في الدين . كقوله تعالى : { والسماء بنيناها بأيد } في سورة [ الذاريات : 47 ] .
( و { الأبصار } : جمع بصر بالمعنى المجازي ، وهو النظر الفكري المعروف بالبصيرة ، أي التبصر في مراعاة أحكام الله تعالى وتوخّي مرضاته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أولي الأيدي} أولي القوة في العبادة.
{والأبصار} البصيرة في أمر الله ودينه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ" ويعني بالأيدي: القوّة، يقول: أهل القوّة على عبادة الله وطاعته. ويعني بالأبصار: أنهم أهل أبصار القلوب، يعني به: أولى العقول للحقّ.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم في ذلك نحوًا مما قلنا فيه... عن ابن عباس، قوله "أُولِي الأيْدِي" يقول: أولي القوّة والعبادة، "والأبْصَارِ" يقول: الفقه في الدين...
فإن قال لنا قائل: وما الأيدي من القوّة، والأيدي إنما هي جمع يد، واليد جارحة، وما العقول من الأبصار، وإنما الأبصار جمع بصر؟ قيل: إن ذلك مثل، وذلك أن باليد البطش، وبالبطش تُعرف قوّة القويّ، فلذلك قيل للقويّ: ذو يَدٍ؛ وأما البصر، فإنه عنى به بصر القلب، وبه تنال معرفة الأشياء، فلذلك قيل للرجل العالم بالشيء: يصير به. وقد يُمكن أن يكون عَنى بقوله "أُولِي الأَيْدِي": أولي الأيدي عند الله بالأعمال الصالحة، فجعل الله أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا أيديا لهم عند الله تمثيلا لها باليد، تكون عند الرجل الآخر.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله عز وجل {واذكر} من ذكر من الرسل عليهم السلام وأهل الصفوة: أي اذكر هؤلاء بما لقوا من أعدائهم، فتستعين أنت بما تلقى من أعدائك.
أو: اذكر خبر هؤلاء في العبادة والدين ليحثك، ويحرضك على الجهد فيها.
أو: اذكر الأسباب التي بها صار هؤلاء أهل صفوة الله ومحل إحسانه ليحملك ذلك على طلب الأسباب لتصير من أهل صفوة الله.
أو: اذكر هؤلاء الصالحين لتتسلى بذكرهم عن بعض أمورك وهمومك.
ثم معلوم أن هؤلاء لم يكونوا أهل قوة في أنفسهم، وإنما كانوا أهل قوة في العبادة في الدين ليعلم أن القوة في الدين غير القوة في النفس.
{أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} دلالة أن قد يفهم بذكر الأيدي غير الجارحة وبذكر البصر غير العين؛ لأنه معلوم أنه لم يرد بذكر الأيدي الجوارح ولا بذكر الأبصار الأعين، ولا فهم منه ذلك، ولكن فهم باليد القوة وبذكر البصر الفهم، أو ما فهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت، فقيل: في كل عمل هذا مما عملت أيديهم، وإن كان عملاً لا يتأتى فيه المباشرة بالأيدي، أو كان العمال جذماً لا أيدي لهم، وعلى ذلك ورد قوله عزّ وعلا: {أُولِي الأيدي والأبصار} يريد: أولي الأعمال والفكر، كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة، ولا يجاهدون في الله، ولا يفكرون أفكار ذوي الديانات ولا يستبصرون في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على أعمال جوارحهم والمسلوبي العقول الذين لا استبصار بهم. وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله، ولا من المستبصرين في دين الله، وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منهما...
اعلم أن اليد آلة لأكثر الأعمال والبصر آلة لأقوى الإدراكات، فحسن التعبير عن العمل باليد وعن الإدراك بالبصر. إذا عرفت هذا فنقول النفس الناطقة الإنسانية لها قوتان عاملة وعالمة، أما القوة العاملة فأشرف ما يصدر عنها طاعة الله، وأما القوة العالمة فأشرف ما يصدر عنها معرفة الله، وما سوى هذين القسمين من الأعمال والمعارف فكالعبث والباطل، فقوله: {أولي الأيدي والأبصار} إشارة إلى هاتين الحالتين...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
مقام العبودية هو أوّل ميزة لأولئك الأنبياء، وحقّاً فإنّ كلّ شيء جمع في هذه الصفة؛ فالعبودية لله تعني التبعية المطلقة له، وتعني الاستسلام الكامل لإرادته، والاستعداد لتنفيذ أوامره في كلّ الأحوال، العبودية لله تعني عدم الاحتياج لغيره، وعدم التوجّه لسواه والتفكير بلطفه ورحمته فقط، هذا هو أوج تكامل الإنسان وأفضل شرف له...
(اُولي الأيدي والأبصار) إنّه لتعبير مثير للعجب؟ أصحاب الأيدي والأبصار!
«أيدي» جمع (يد)، و (أبصار) جمع (بصر)، الإنسان يحتاج إلى قوّتين لتحقيق أهدافه، الاُولى قوّة الإدراك والتشخيص، والثانية حسن الأداء. وبعبارة أخرى: يجب عليه الاستفادة من (العلم) و (القدرة) للوصول إلى أهدافه، وقد وصف البارئ عز وجل أنبياءه بأنّهم ذوو إدراك وتشخيص وبصيرة قويّة، وذوو قوّة وقدرة كافية لإنجاز أعمالهم.
إنّ هؤلاء الأنبياء على مستوى عال من المعرفة، وأنّ مستوى علمهم بشريعة الله وأسرار الخلق وخفايا الحياة لا يمكن تحديده، أمّا من حيث الإرادة والتصميم وحسن الأداء، فإنّهم غير كسولين أو عاجزين أو ضعفاء، بل هم أشخاص ذوو إرادة قويّة وتصميم راسخ، إنّهم قدوة لكلّ السائرين في طريق الحقّ، فبعد مقام العبودية الكامل لله تعالى، لتسلّحوا بهذين السلاحين القاطعين...