ثم يحكى القرآن الكريم أن هؤلاء المترفين لم يكتفوا بإعلان كفرهم ، وتكذيبهم للأنبياء والمصلحين ، بل أضافوا إلى ذلك التبجح والتعالى على المؤمنين . فقال - تعالى - : { وَقَالُواْ } أى المترفون الذين أبطرتهم النعمة للمؤمنين الفقراء { نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً } منكم - أيها المؤمنون - إذ أموالنا أكثر من أموالكم ، وأولادنا أكثر من أولادكم ، ولولا أننا أفضل عند الله منكم ، لما اعطانا . مالا يعطيكم . .
فنحن نعيش حياتنا فى أمان واطمئنان { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } بشئ من العذاب الذى تعدوننا به لا فى الدنيا ولا فى الآخرة .
قال الامام ابن كثير تفسيره هذه الآية : افتخر المترفون - بكثرة الأموال والأولاد ، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله لهم ، واعتنائه بهم ، وأنه ما كان ليعطيهم هذا فى الدنيا ، ثم يعذبهم فى الآخرة ، وهيهات فى الآخرة ، وهيهات لهم ذلك . قال - تعالى - : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }
وقوله تعالى إخبارا عن المترفين المكذبين : { وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينََ } أي : افتخروا بكثرة الأموال والأولاد ، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله لهم واعتنائه بهم ، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا ، ثم يعذبهم في الآخرة ، وهيهات لهم ذلك . قال الله : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 ، 56 ] وقال : { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 55 ] ، {[24369]} وقال تعالى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا . وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا . وَبَنِينَ شُهُودًا . وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا . ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ . كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا . سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا . } [ المدثر : 11 - 17 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ * قُلْ إِنّ رَبّي يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وقال أهل الاستكبار على الله من كل قرية أرسلنا فيها نذيرا لأنبيائنا ورسلنا : نحن أكْثَرُ أمْوَالاً وأوْلادا وَما نَحْنُ فِي الاَخرَةِ بِمُعَذّبينَ لأن الله لو لم يكن راضيا ما نحن عليه من الملة والعمل لم يخوّلنا الأموال والأولاد ، ولم يبسط لنا في الرزق ، وإنما أعطانا ما أعطانا من ذلك لرضاه أعمالنا ، وآثرنا بما آثرنا على غيرنا لفضلنا ، وزلفة لنا عنده يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم يا محمد : إن ربي يبسط الرزق من المعاش والرياش في الدنيا لمن يشاء من خلقه ويَقْدِر فيضيق على من يشاء لا لمحبة فيمن يبسط له ذلك ولا خير فيه ولا زُلْفة له ، استحقّ بها منه ، ولا لبُغض منه لمن قدر عليه ذلك ، ولا مَقْت ، ولكنه يفعل ذلك مِحْنة لعباده وابتلاء ، وأكثر الناس لا يعلمون أن الله يفعل ذلك اختبارا لعباده ، ولكنهم يظنون أن ذلك منه محبة لمن بَسَطَ له ومَقْت لمن قَدَر عليه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما أمْوَالُكُمْ وَلا أوْلادُكمْ بالتي تُقَرّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفَى . . . الاَية ، قال : قالوا : نحن أكثر أموالاً وأولادا ، فأخبرهم الله أنه ليست أموالكم ولا أولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زُلْفى ، إلاّ مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صَالحا ، قال : وهذا قول المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قالوا : لو لم يكن الله عنا راضيا لم يعطنا هذا ، كما قال قارون : لولا أن الله رَضِيَ بي وبحالي ما أعطاني هذا ، قال : أوَ لَمْ يَعْلَمْ أنّ اللّهَ قَدْ أهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ . . . إلى آخر الاَية .
قَفّوْا على صريح كفرهم بالقرآن وغيره من الشرائع بكلام كَنَّوْا به عن إبطال حقية الإِسلام بدليل سفسطائي فجعلوا كثرة أموالهم وأولادهم حجة على أنهم أهل حظ عند الله تعالى ، فضمير { وقالوا } عائد إلى { الذين كفروا } من قوله : { وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن } [ سبأ : 31 ] الخ . وهذا من تمويه الحقائق بما يحفّ بها من العوارض فجعلوا ما حف بحالهم في كفرهم من وفرة المال والولد حجةً على أنهم مظنة العناية عند الله وأن ما هم عليه هو الحق . وهذا تعريض منهم بعكس حال المسلمين بأن حال ضعف المسلمين ، وقلة عددهم ، وشظِف عيشهم حجة على أنهم غير محظوظين عند الله ، ولم يتفطنوا إلى أن أحوال الدنيا مسببة على أسباب دنيوية لا علاقة لها بأحوال الأولاد . وهذا المبدأ الوهمي السفسطائي خطير في العقائد الضالة التي كانت لأهل الجاهلية والمنتشرة عند غير المسلمين ، ولا يخلو المسلمون من قريب منها في تصرفاتهم في الدين ومرجعها إلى قياس الغائب على الشاهد وهو قياس يصادف الصواب تارة ويخطئه تارات .
ومن أكبر أخطاء المسلمين في هذا الباب خطأ اللجَأ إلى القضاء والقدر في أعذارهم ، وخطأ التخلق بالتوكل في تقصيرهم وتكاسلهم .
فجملة { وقالوا نحن أكثر أموالا وأولاداً } عطف على جملة { وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن } [ سبأ : 31 ] الخ ، وقولهم : { وما نحن بمعذبين } كالنتيجة لقولهم { نحن أكثر أموالا وأولاداً } ، وإنما جيء فيه بحرف العطف لترجيح جانب الفائدة المستقلة على جانب الاستنتاج الذي يومىء إليه ما تقدمه وهو قولهم : { نحن أكثر أموالاً وأولاداً } فحصل من هذا النظم استدلال لصحة دينهم ولإِبطال ما جاء به الإِسلام ثم الافتخار بذلك على المسلمين والضعة لِجانب المسلمين بإِشارة إلى قياس استثنائي بناء على ملازمة موهومة ، وكأنهم استدلوا بانتفاء التعذيب على أنهم مقرّبون عند الله بناء على قياس مساواة مطوي فكأنهم حصروا وسائل القرب عند الله في وفرة الأموال والأولاد . ولولا هذا التأويل لخلت كلتا الجملتين عن أهم معنييهما وبه يكون موقع الجواب ب { قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أشدّ اتصالاً بالمعنى ، أي قل لهم : إن بسط الرزق وتقتيره شأن آخر من تصرفات الله المنوطة بما قدره في نظام هذا العالم ، أي فلا ملازمة بينه وبين الرشد والغي ، والهدى والضلال ، ولو تأملتم أسباب الرزق لرأيتموها لا تلاقي أسباب الغي والاهتداء ، فربما وسع الله الرزق على العاصي وضيّقه على المطيع وربما عكس فلا يغرنهم هذا وذاك فإنكم لا تعلمون .
وهذا ما جعل قوله : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } مصيباً المحزّ ، فأكثر الناس تلتبس عليهم الأمور فيخلطون بينها ولا يضعون في مواضعها زيْنها وشَيْنها .
وقد أفاد هذا أن حالهم غير دالّ على رضَى الله عنهم ولا على عدمه ، وهذا الإِبطال هو ما يسمى في علم المناظرة نقضاً إجمالياً .