وبعد هذا الزجر والردع لهم ، لسوء أقوالهم وأفعالهم ، أخذت السورة الكريمة فى زجرهم وردعهم عن طريق تذكيرهم بأهوال الآخرة فقال : - تعالى - : { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً } . وقوله - تعالى - : { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً } ردع لهم وزجر عن أفعالهم السابقة ، وهى عدم إكرام اليتيم ، وعدم الحض على طعام المسكين .
وقوله : { دُكَّتِ الأرض } من والدك : بمعنى الكسر والدق والزلزلة الشديدة ، والتحطيم الجسيم ، وانتصب لفظ " دكا " الأول على أنه مصدر مؤكد للفعل ، وانتصاب الثانى على أنه تأكيد الأول . وقيل : تكرار " دكا " للدلالة على الاستيعاب ، كقولك : قرأت النحو بابا بابا ، أى : قرأته كله .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض . . } أى : ما هكذا ينبغى أن يكون الأمر . فهو رد لانكبابهم على الدنيا ، وجميعهم لها ، فإن من فعل ذلك يندم يوم تدك الأرض ، ولا ينفعه الندم ، والدك .
الكسر والدق ، أى : زلزلت وحركت تحريكا بعد تحريك .
وقوله : { دَكّاً دَكّاً } أى : مرة بعد مرة ، زلزلت فكسر بعضها بعضا فتكسر كل شئ على ظهرها . .
وعند هذا الحد من فضح حقيقة حالهم المنكرة ، بعد تصوير خطأ تصورهم في الابتلاء بالمنع والعطاء ، يجيء التهديد الرعيب بيوم الجزاء وحقيقته ، بعد الابتلاء ونتيجته ، في إيقاع قوي شديد :
" كلا . إذا دكت الأرض دكا دكا . وجاء ربك والملك صفا صفا . وجيء يومئذ بجهنم . يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ؟ يقول : يا ليتني قدمت لحياتي . فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد " . .
ودك الأرض ، وتحطيم معالمها وتسويتها ؛ وهو أحد الانقلابات الكونية التي تقع في يوم القيامة . فأما مجيء ربك والملائكة صفا صفا ، فهو أمر غيبي لا ندرك طبيعته ونحن في هذه الآرض . ولكنا نحس وراء التعبير بالجلال والهول . كذلك المجيء بجهنم . نأخذ منه قربها منهم وقرب المعذبين منها وكفى . فأما حقيقة ما يقع وكيفيته فهي من غيب الله المكنون ليومه المعلوم .
إنما يرتسم من وراء هذه الآيات ، ومن خلال موسيقاها الحادة التقسيم ، الشديدة الأسر ، مشهد ترجف له القلوب ، وتخشع له الأبصار . والأرض تدك دكا دكا !
ويعني جلّ ثناؤه بقوله : كَلاّ : ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر . ثم أخبر جلّ ثناؤه عن ندمهم على أفعالهم السيّئة في الدنيا ، وتلهّفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم الندم ، فقال جلّ ثناؤه : إذَا دُكّت الأرْضُ دَكّا دكّا يعني : إذا رجت وزُلزلت زلزلة ، وحرّكت تحريكا بعد تحريك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله إذَا دُكّتِ الأرْضُ دَكّا دَكّا يقول : تحريكها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني حرملة بن عمران ، أنه سمع عمر مولى غُفْرة يقول : إذا سمعت الله يقول كلا ، فإنما يقول : كذبت .
زجر وردع عن الأعمال المعدودة قبله ، وهي عدم إكرامهم اليتيم وعدم حضهم على طعام المسكين ، وأكلُهم التراث الذي هو مالُ غير آكله ، وعن حب المال حبّاً جمّاً .
{ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً } .
استئناف ابتدائي انْتُقل به من تهديدهم بعذاب الدنيا الذي في قوله : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } [ الفجر : 6 ] الآيات إلى الوعيد بعذاب الآخرة . فإن استخفوا بما حلّ بالأمم قبلهم أو أمهلوا فأخر عنهم العذاب في الدنيا فإن عذاباً لا محيص لهم عنه ينتظرهم يوم القيامة حين يتذكّرون قَسْراً فلا ينفعهم التذكر ، ويندمون ولات ساعةَ مندم .
فحاصل الكلام السابق أن الإِنسان الكافر مغرور يَنُوط الحوادث بغير أسبابها ، ويتوهمها على غير ما بها ولا يُصغي إلى دعوة الرسل فيستمر طولَ حياته في عَماية ، وقد زجروا عن ذلك زجراً مؤكداً .
وأَتبع زجرهم إنذاراً بأنهم يحين لهم يوم يُفيقون فيه من غفلتهم حين لا تنفع الإِفاقة .
والمقصود من هذا الكلام هو قوله : { فيومئذٍ لا يعذب عذابه أحد } ، وقوله { يا أيتها النفس المطمئنة } [ الفجر : 27 ] ، وأما ما سبق من قوله { إذا دكت الأرض } إلى قوله { وجيء يومئذٍ بجهنم } فهو توطئة وتشويق لسماع ما يجيء بعده وتهويل لشأن ذلك اليوم وهو الوقت الذي عُرِّف بإضافة جملة { دكت الأرض } وما بعدها من الجمل وقد عرف بأشراط حلوله وبما يقع فيه من هول العقاب .
والمراد بالأرض الكُرَة التي عليها الناس ، ودكّها حطمها وتفرق أجزائها الناشىءُ عن فساد الكون الكائنة عليه الآن ، وذلك بما يحدثه الله فيها من زلازل كما في قوله : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } [ الزلزلة : 1 ] الآية .
و { دكاً دكاً } يجوز أن يكون أولهما منصوباً على المفعول المطلق المؤكِّد لفعله . ولعل تأكيده هنا لأن هذه الآية أول آية ذكر فيها دَكُّ الجبال ، وإذ قد كان أمراً خارقاً للعادة كان المقام مقتضياً تحقيق وقوعه حقيقةً دون مجاز ولا مبالغة ، فأكد مرتين هنا ولم يؤكد نظيره في قوله : { فدكتا دكة واحدة } في سورة الحاقة ( 14 ) ف { دكّا } الأول مقصود به رفع احتمال المجاز عن « دُكّتا » الدك أي هو دَكّ حقيقي ، و { دَكا } الثاني منصوباً على التوكيد اللفظي لدكا الأول لزيادة تحقيق إرادة مدلول الدك الحقيقي لأن دك الأرض العظيمة أمر عجيب فلغرابته اقتضى إثباتُه زيادة تحقيق لمعناه الحقيقي .
وعلى هذا درج الرضي قال : ويستثنى من منع تأكيد النكرات ( أي تأكيداً لفظياً ) شيء واحد وهو جواز تأكيدها إذا كانت النكرة حكماً لا محكوماً عليه كقوله صلى الله عليه وسلم : " فنكاحها باطل باطل باطل " . ومثله قوله تعالى : { دكت الأرض دكاً دكاً } فهو مثل : ضَرَبَ ضَرَب زيدٌ ا ه .
وهذا يلائم ما في وصف دكّ الأرض في سورة الحاقة بقوله تعالى : { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة } [ الحاقة : 14 ] ودفع المنافاة بين هذا وبين ما في سورة الحاقة .
ويجوز أن يكون مجموع المصدرين في تأويل مفرد منصوب على المفعول المطلق المبيِّن للنوع . وتأويله . أنه دكّ يعقُب بعضه بعضاً كما تقول : قرأت الكتاب باباً باباً وبهذا المعنى فسّر صاحب « الكشاف » وجمهور المفسرين من بعده . وبعض المفسرين سكت عن بيانه قال الطيبي : « قال ابن الحاجب : لعلّه قالَه في « أماليه على المقدمة الكافية » وفي نسختي منها نقص ولا أعرف غيرها بتونس ولا يوجد هذا الكلام في « إيضاح المفصل » بينت له حسابه باباً باباً ، أي مفصلاً . والعرب تكرر الشيء مرتين » فتستوعب تفصيل جنسه باعتبار المعنى الذي دلّ عليه لفظُ المكرّر ، فإذا قلت : بَيَّنْت له الكتاب باباً باباً فمعناه بينته له مفصلاً باعتبار أبوابه اه .
قلت : هذا الوجه أوفى بحق البلاغة فإنه معنى زائد على التوكيد والتوكيد حاصل بالمصدر الأول .
وفي « تفسير الفخر » : وقيل : فبُسِطَتَا بسطةً واحدة فصارتا أرضاً لا ترى فيها أمتاً وتبعه البيضاوي يعني : أن الدك كناية عن التسوية لأن التسوية من لوازم الدك ، أي صارت الجبال مع الأرض مستويات لم يبق فيها نتوء .
ولك أن تجعل صفة واحدة مجازاً في تفرد الدكة بالشدة التي لا ثاني مثلها ، أي دكة لا نظير لها بين الدكات في الشدة من باب قولهم : هو وحيد قومه ، ووحيد دهره ، فلا يعارض قوله : { دكاً دكاً } بهذا التفسير . وفيه تكلف إذ لم يسمع بصيغةِ فَاعل فلم يسمع : هو واحد قومه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.