المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِٱلۡمُفۡسِدِينَ} (63)

63- فإن أعرضوا عن الحق بعدما تبين لهم ، ولم يرجعوا عن ضلالتهم فهم المفسدون ، والله عليم بهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِٱلۡمُفۡسِدِينَ} (63)

ثم ختم - سبحانه - تلك المحاجة بقوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين } .

أى فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات والحجج الواضحات التى أخبرناك بها وقصصناها عليك ، فأنذرهم بسوء العاقبة ، وأخبرهم أن الله - تعالى - عليم بهم ، وبما يقولونه ويفعلونه من فساد في الأرض . وسيعاقبهم على ذلك العقاب الأليم .

فقوله { فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين } قائم مقام جواب الشرط ، أى فإن تولوا فأخبرهم بأنهم مفسدون وأن لهم سوء العقبى لأن الله عليم بإفسادهم ولن يتركهم بدون عقوبة .

وهذه الجملة الكريمة تتضمن فى ذاتها تهديدا شديداً لهؤلاء المجادلين بالباطل فى شأن عيسى - عليه السلام - ولكل من أعرض عن الحق الذى جاء به النبى صلى الله عليه وسلم لأن الله - تعالى - ليس غافلا عن إفساد المفسدين ، وإنما يأخذهم أخذ عيز مقتدر .

وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد بينت بأسلوب معجز حكيم جانبا من قصة آل عمران فحدثتنا عما كان من امرأته أم مريم ، وما قالته عندما حملت بها ، وما قالته بعد ولادتها ، وما أكرم الله به مريم من رعايتها بالتربية الحسنة وبالرزق الحسن ، ثم ما كان من شأن زكريا وتضرعه إلى الله أن يهبه الذرية الصالحة واستجابة الله له وتبشيره بولادة يحيى ، ثم ما كان من شأن مريم وتبشيرها باصطفاء الله لها وأمرها بالمداومة على طاعته ، ثم تبشيرها بعيسى وتعجبها لذلك والرد عليها بما يزيل هذا العجب ، ثم ما كان من شأن عيسى - عليه السلام - وما وصفه به من صفات كريمة ، وما منحه من معجزات باهرة تشهد بصدقه فى رسالته ، مما جعل الحواريين يؤمنون به ، أما الأكثرون من بنى إسرائيل فقد كفروا به ودبروا له المكايد فأنجاه الله من مكرهم ورفعه إليه وطهره منهم .

ثم بين القرآن أن عيسى عبد الله ورسوله ، وأن هذا هو الحق ، وقد تحدى الرسول صلى الله عليه وسلم كل من نازعه فى ذلك بالمباهلة ولكن المجادلين نكصوا على أعقابهم ، فثبت صدق النبى صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه .

وبذلك يكون القرآن قد بين الحق فى شأن عيسى - عليه السلام - بيانا يهدى القلوب ويقنع العقول ويحمل النفوس على التدبر والاعتبار ، وإخلاص العبادة لله رب العالمين .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِٱلۡمُفۡسِدِينَ} (63)

33

( فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين ) .

إنما الجديد هو وصف الذين يتولون عن الحق بأنهم مفسدون ، وتهديدهم بأن الله عليم بالمفسدين . .

والفساد الذي يتولاه المعرضون عن حقيقة التوحيد فساد عظيم . وما ينشأ في الأرض الفساد - في الواقع - إلا من الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة . لا اعتراف اللسان . فاعتراف اللسان لا قيمة له . ولا اعتراف القلب السلبي . فهذا الاعتراف لا ينشىء آثاره الواقعية في حياة الناس . . إنما هي الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة بكل آثارها التي تلازمها في واقع الحياة البشرية . . وأول ما يلازم حقيقة التوحيد أن تتوحد الربوبية ، فتتوحد العبودية . . لا عبودية إلا لله . ولا طاعة إلا لله . ولا تلقي إلا عن الله . فليس إلا لله تكون العبودية . وليس إلا لله تكون الطاعة . وليس إلا عن الله يكون التلقي . . التلقي في التشريع ، والتلقي في القيم والموازين ، والتلقي في الآداب والأخلاق . والتلقي في كل ما يتعلق بنظام الحياة البشرية . . وإلا فهو الشرك أو الكفر . مهما اعترفت الألسنة ، ومهما اعترفت القلوب الاعتراف السلبي الذي لا ينشىء آثاره في حياة الناس العامة في استسلام وطاعة واستجابة وقبول .

إن هذا الكون بجملته لا يستقيم أمره ولا يصلح حاله ، إلا أن يكون هناك إله واحد ، يدبر أمره : و( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) . . وأظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية : تعبد العبيد ؛ والتشريع لهم في حياتهم ، وإقامة الموازين لهم . فمن ادعى لنفسه شيئا من هذا كله فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية ؛ وأقام نفسه للناس إلها من دون الله .

وما يقع الفساد في الأرض كما يقع عندما تتعدد الآلهة في الأرض على هذا النحو . عندما يتعبد الناس الناس . عندما يدعي عبد من العبيد أن له على الناس حق الطاعة لذاته ؛ وأن له فيهم حق التشريع لذاته ؛ وأن له كذلك حق إقامة القيم والموازين لذاته . فهذا هو ادعاء الألوهية ولو لم يقل كما قال فرعون : ( أنا ربكم الأعلى ) . . والإقرار به هو الشرك بالله أو الكفر به . . وهو الفساد في الأرض أقبح الفساد .