{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } أي مثل ما تركنا على نوح . كما تقدم بيانه وإعرابه { كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ* وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ* وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ } أي على إبراهيم { وَعَلَى إِسْحَاقَ } أي : بتكثير الذرية وتسلسل النبوة فيهم ، وجعلهم ملوكا ، وإيتائهم ما لم يؤت أحد { وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ } أي في عمله { وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } أي بالكفر والمعاصي { مُبِينٌ } أي ظاهر الظلم .
الأول- يروي المفسرون هاهنا في قصة الذبح روايات منكرة لم يصح سندها ولا متنها . بل ولم تحسن ، فهي معضلة تنتهي إلى السّدّيّ وكعب . والسّدّيّ حاله معلوم في ضعف مروياته . وكذلك كعب .
قال ابن كثير رحمه الله : لما أسلم كعب الأحبار في الدولة العمرية ، جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديما : فربما استمع له عمر . فترخص الناس في استماع ما عنده عنه . غثها وسمينها . وليس لهذه الأمة حاجة إلى حرف واحد مما عنده . انتهى .
ولقد صدق رحمه الله . ولذا لا نرى أن نزيد على أصل ما قص في التنزيل من الضروري له ، إلا إذا صح سنده ، أو اطمأن القلب به . وقد ولع الخطباء في دواوينهم برواية هذه القصة في خطبة الأضحى من طرقها الواهية عند المحدثين . ويرونها ضربة لازب على ضعف سندها وكون متنها منكرا أيضا أو موضوعا . ولما صنفت ( مجموعة الخطب ) حذفت هذه الرواية من خطبة الأضحى ككل مرويّ ضعيف في فضائل الشهور والأوقات ، واقتصرت على جياد الأخبار والآثار . وذلك من فضل الله علينا فلا نحصي ثناء عليه . وأمثل ما روي في هذا النبأ من / الآثار ما أخرجه الإمام أحمد{[6366]} عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا ، قال : ( لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك ، عرض له الشيطان عند السعي . فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى جمرة العقبة . فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب . ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات . ثم تلّه للجبين ، وعلى إسماعيل عليه السلام قميص أبيض . فقال له : يا أبت ! إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره ، فاخلعه حتى تكفينني فيه : فعالجه ليخلصه ، فنودي من خلفه : أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا . فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين . قال ابن عباس : لقد رأيتنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش ) .
الثاني- قال السيوطي في ( الإكليل ) : في هذه الآية أن رؤيا الأنبياء وحي ، وجواز نسخ الفعل قبل التمكن ، وتقديم المشيئة في كل قول . واستدل بعضهم بهذه القصة على أن من نذر ذبح ولده ، لزمه ذبح شاة .
ثم قال السيوطيّ : فسّر الذِّبح العظيم في الأحاديث والآثار بكبش . فاستدل به المالكية على أن الغنم في التضحية أفضل من الإبل . انتهى .
الثالث- استدل بالآية على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه- كما ذكره الرازي- وذلك في باب الابتلاء . أي ابتلاء المأمور في إخلاصه وصدقه ، فيما يشق على النفس تحمله .
الرابع- يذكر كثير الخلاف في الذبيح . قال الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) : وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم . وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها . وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : هذا القول إنما هو متلقى من أهل الكتاب ، مع أنه باطل بنص كتابهم . فإن فيه إن الله أمر / إبراهيم أن يذبح ابنه ( بكره ) . وفي لفظ ( وحيده ) ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده . والذي غرّ وأصحاب هذا القول إن في التوراة التي بأيديهم ( اذبح ابنك إسحاق ) قال : وهذه زيادة من تحريفهم وكذبهم . لأنها تناقض قوله ( بكرك ) ( وحيدك ) ولكن يهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف ، وأحبوا أن يكون لهم ، وأن يسوقوه إليهم ، ويختارونه دون العرب . ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله . وكيف يسوغ أن يقال إن الذبيح إسحاق ، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب ، فقال تعالى عن الملائكة أنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى {[6367]} { لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط* وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } فمحال أن يبشرها بأنه يكون له ولد ثم يأمر بذبحه . ولا ريب أن يعقوب داخل في البشارة . فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ الواحد . وهذا ظاهر الكلام وسياقه . فإن قيل ، لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان يعقوب مجرورا عطفا عل إسحاق ، فكانت القراءة ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) أي ويعقوب من وراء إسحاق . قيل لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشرا به . لأن البشارة قول مخصوص : وهي أول خبر سارّ صادق . وقوله : ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) جملة متضمنة بهذه القيود ، فيكون بشارة بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية . أو لما كانت البشارة قولا ، كان موضع هذه الجملة نصبا على الحكاية بالقول . كأن المعنى : وقلنا لها من وراء إسحاق يعقوب والقائل إذا قال : بشرت فلانا بقدوم أخيه ، وثقله في أثره ، لم يعقل منه إلا بشارة بالأمرين جميعا . هذا مما لا يستريب ذو فهم فيه البتة . ثم يضعف الجر أمر آخر . وهو ضعف قولك ( مررت بزيد ومن بعده عمرو ) لأن العاطف يقوم حرف الجر ، فلا يفصل بينه وبين المجرور : كما لا يفصل بين حرف الجار والمجرور ، ويدل عليه أنه سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه في هذه السورة ، قال : {[6368]} { فلما أسلما وتله للجبين* وناديناه أن يا إبراهيم* قد صدقت الرؤيا إنا / كذلك نجزي المحسنين* إن هذا لهو البلاء المبين* وفديناه بذبح عظيم* وتركنا عليه في الآخرين* سلام على إبراهيم* كذلك نجزي المحسنين* إنه من عبادنا المؤمنين } ثم قال {[6369]} { وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين } فهذا بشارة من الله له ، شكرا على صبره على ما أمر به . وهذا ظاهر جدا في أن المبشر به غير الأول . بل هو كالنص فيه . فإن قيل : فالبشارة الثانية وقعت على نبوته . أي لما صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر الله ، جازاه الله على ذلك ، بأن أعطاه النبوة . قيل : البشارة وقعت على المجموع ، على ذاته ووجوده وأن يكون نبيا . ولهذا ينصب { نبيا } على الحال المقدر أي مقدرا نبوته . فلا يمكن إخراج البشارة أن يقع على الأصل ، ثم يخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة . هذا محال من الكلام . بل إذا وقعت البشارة على نبوته ، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى ، وأيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة ، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر . كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار ، تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه ، وإقامة لذكر الله . ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة ، دون إسحاق وأمه . ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل . وكان النحر بمكة ، من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زمانا ومكانا ولو كان الذبح بالشام كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم ، لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة . وأيضا فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليما لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه . ولما ذكر إسحاق سمّاه عليما فقال : {[6370]} { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين* إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون } إلى أن قال : {[6371]} { قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم } وهذا إسحاق بلا ريب ، لأنه من امرأته وهي المبشرة به . وأما إسماعيل فمن السرية . وأيضا فإنهما بشرا به على الكبر واليأس / ومن الولد . وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك ، وأيضا فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده . وإبراهيم لما سأل ربه الولد ووهبه له ، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته ، والله تعالى قد اتخذه خليلا . والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها . فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد ، جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل . فأمره الجليل بذبح المحبوب . فلما أقدم على ذبحه ، وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد ، خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة ، فلم يبق في الذبح مصلحة . إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس فيه . فقد حصل المقصود ، فنسخ الأمر ، وفدى الذبيح ، وصدق الخليل الرؤيا ، وحصل مراد الرب . ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار ، إنما حصل عند أول مولود . ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول . بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ، ما يقتضي الأمر بذبحه . وهذا في غاية الظهور . وأيضا فإن سارة امرأة الخليل غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة . فإنها كانت جارية . فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة . فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها ويسكنها في أرض مكة ، ليبرّد عن سارة حرارة الغيرة . وهذا من رحمته ورأفته . فكيف يأمره سبحانه بعد هذا ، أن يذبح ابنها ، ويدع ابن الجارية بحاله هذا مع رحمة الله لها وإبعاد الضرر عنها وخيرته لها . فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية ؟ بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية ، فحينئذ يرق قلب الست على ولدها ، وتتبدل قسوة الغيرة رحمة ، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها ، وأن الله لا يضيع بيتا ، هذه وابنها منهم . ويرى عباده جبره بعد الكسر ، ولطفه بعد الشدة . وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم ، إلى ذبح الولد ، آلت إلى ما آلت إليه ، من جعل آثارهما وموطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين ، ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة . وهذا سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه ، أن يمن عليه بعد استضعافه وذله / وانكساره . قال تعالى : {[6372]} { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين } {[6373]} { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } انتهى .
وقال السيوطي في ( الإكليل ) : واستدل بقوله تعالى : بعد {[6374]} { وبشرناه بإسحاق } من قال إن الذبيح إسماعيل . وهو الذي رجحه جماعة . واحتجوا له بأدلة . منها وصفه بالحلم وذكر البشارة بإسحاق بعده . والبشارة بيعقوب من وراء إسحاق . وغير ذلك . وهي أمور ظنية لا قطعية . ثم قال : وتأملت القرآن فوجدت فيها ما يقتضي القطع أو يقرب منه- ولم أر من سبقني إلى استنباطه- وهو أن البشارة وقعت مرتين . مرة في قوله : {[6375]} { إني ذاهب إلى ربي سيهدين* رب هب لي من الصالحين* فبشرناه بغلام حليم* فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك } فهذه الآية قاطعة في أن هذا المبشر به هو الذبيح . ومرة في قوله : {[6376]} { وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } الآية . فقد صرح فيها أن المبشر به إسحاق . ولم يكن بسؤال من إبراهيم . بل قالت امرأته إنها عجوز ، وإنه شيخ . وكان ذلك في الشام لما جاءت الملائكة إليه بسبب قوم لوط وهو في آخر أمره . أما البشارة الأولى لما انتقل من العراق إلى الشام ، حين كان سنه لا يستغرب فيه الولد ، ولذلك سأله . فعلمنا بذلك أنهما بشارتان في وقتين بغلامين . أحدهما بغير سؤال ، وهو إسحاق صريحا . والثانية قبل ذلك بسؤال وهو غيره . فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح . انتهى .