وقوله تعالى : { والسابقون السابقون } هو الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة ، ولعل تأخير ذكرهم مع كونهم أسبق الأصناف وأقدمهم في الفضل ليردف ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم على أن إيرادهم بعنوان السبق مطلقاً معرض عن إحرازهم قصب السبق من جميع الوجوه .
واختلف في تعيينهم فقيل : هم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة عند ظهور الحق من غير تلعثم وتوان ، وروى هذا عن عكرمة . ومقاتل ، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون . وحبيب النجار الذي ذكر في يس . وعليّ بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه وكل رجل منهم سابق أمته وعليّ أفضلهم ، وقيل : هم الذين سبقوا في حيازة الكمالات من العلوم اليقينية ومراتب التقوى الواقعة بعد الإيمان ، وقيل : هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم مقدموا أهل الأديان ، وقال ابن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين كما قال تعالى : { والسابقون الاولون مِنَ المهاجرين والأنصار } [ التوبة : 100 ] وعن ابن عباس هم السابقون إلى الهجرة ، وعن عليّ كرم الله تعالى وجهه هم السابقون إلى الصلوات الخمس ، وأخرج أبو نعيم . والديلمي عن ابن عباس مرفوعاً أول من يهجر إلى المسجد وآخر من يخرج منه .
وأخرج عبد بن حميد : وابن المنذر عن عبادة بن أبي سودة مولى عبادة بن الصامت قال : بلغنا أنهم السابقون إلى المساجد والخروج في سبيل الله عز وجل ، وعن الضحاك هم السابقون إلى الجهاد ، وعن ابن جبير هم السابقون إلى التوبة وأعمال البر ، وقال كعب : هم أهل القرآن ، وفي «البحر » في الحديث " سئل عن السابقين فقال : هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم " وقيل : الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم دام عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق ، ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة ثم تراجع بتوبته فهذا صاحب اليمين ، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال ، وعن ابن كيسان أنهم المسارعون إلى كل ما دعا الله تعالى إليه ورجحه بعضهم بالعموم ، وجعل ما ذكر في أكثر الأقوال من باب التمثيل ، وأياً ما كان فالشائع أن الجملة مبتدأ وخبر والمعنى { والسابقون } هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت فخامتهم كقوله
: أنا أبو النجم وشعري شعري *** وفيه من تفخيم شأنهم والإيذان بشيوع فضلهم ما لا يخفى ، وقيل : متعلق السبق مخالف لمتعلق السبق الثاني أي السابقون إلى طاعة الله تعالى { السابقون } إلى رحمته سبحانه ، أو { السابقون } إلى الخير { السابقون } إلى الجنة ، والتقدير الأول محكي عن صاحب المرشد .
وأنت تعلم أن الحمل مفيد بدون ذلك كما سمعت بل هو أبلغ وأنسب بالمقام وأياً ما كان فقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ المقربون } ، مبتدأ وخبر والجملة استئناف بياني ، وقيل : { السابقون } [ الواقعة : 10 ] السابق مبتدأ { والسابقون } اللاحق تأكيد له وما بعد خبر وليس بذاك أيضاً لفوات مقابلة ما ذكر لقوله تعالى : { فأصحاب } [ الواقعة : 8 ] الخ ولأن القسمة لا تكون مستوفاة حينئذ ، ولفوات المبالغة المفهومة من نحو هذا التركيب على ما سمعت مع أنهم أعني السابقين أحق بالمدح والتعجيب من حالهم من السابقين ولفوات ما في الاستئناف بأولئك المقربون من الفخامة وإنما لم يقل والسابقون ما السابقون على منوال الأولين لأنه جعل أمراً مفروغاً مسلماً مستقلاً في المدح والتعجيب ، والإشارة بأولئك إلى السابقين وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل ، و { المقربون } من القربة بمعنى الحضوة أي أولئك الموصوفون بذلك النعت الجليل الذين أنيلوا حظوة ومكانة عند الله تعالى ، وقال غير واحد : المراد الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم .
هذا وفي الإرشاد الذي تقتضيه جزالة التنزيل أن قوله تعالى : { فأصحاب الميمنة } [ الواقعة : 8 ] خبر مبتدأ محذوف وكذا قوله سبحانه : { وأصحاب المشئمة } وقوله جل شأنه : { والسابقون } فإن المترقب عند بيان انقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام .
وأما أوصافها وأحوالها فحقها أن تبين بعد ذلك بإسنادها إليها ، والتقدير فأحدها أصحاب الميمنة والآخر أصحاب المشأمة ، والثالث السابقون خلا أنه لما أخر بيان أحوال القسمين الأولين عقب كلاً منهما بجملة معترضة بين القسمين منبئة عنت ترامي أحوالهما في الخير والشر إنباءاً إجمالياً مشعراً بأن لأحوال كل منهما تفصيلاً مترقباً لكن لا على أن { مَا } الاستفهامية مبتدأ وما بعدها خبر على مارآه سيبويه في أمثال بل على أنها خبر لما بعدها فإن مناط الإفادة بيان أن أصحاب الميمنة أمر بديع كما يفيده كون { مَا } خبراً لا بيان أن أمراً بديعاً أصحاب الميمنة كما يفيده كونها مبتدأ وكذا الحال في { مَا أصحاب المشئمة } [ الواقعة : 9 ] وأما القسم الأخير فحيث قرن به بيان محاسن أحواله لم يحتج فيه إلى تقديم الأنموذج فقوله تعالى : { السابقون } مبتدأ والإظهار في مقام الإضمار للتفخيم و { أولئك } مبتدأ ثان ، أو بدل من الأول وما بعده خبر له ، أو للثاني ، والجملة خبر للأول انتهى ، وقيل عليه : أنه ليس في جعل جملتي الاستفهام وقوله سبحانه : { السابقون } إخباراً لما قبلها بيان لأوصاف الأقسام وأحوالها تفصيلاً حتى يقال : حقها أن تبين بعد أنفس الأقسام بل فيه بيان الأقسام مع إشارة إلى ترامي أحوالها في الخير والشر والتعجيب من ذلك .
وأيضاً مقتضى ما ذكره أن لا يذكر { مَا أصحاب اليمين } و { مَا أصحاب الشمال } [ الواقعة : 14 ] في التفصيل ، وتعقب هذا بأن الذكر محتاج إلى بيان نكتة على الوجه الدائر على ألسنتهم كاحتياجه إليه على هذا الوجه ، ولعلها عليه أنه لما عقب الأولين بما يشعر بأن لأحوال كل تفاصيل مترقبة أعيد ذلك للإعلام بأن الأحوال العجيبة هي هذه فلتسمع ، والذي يتبادر للنظر الجليل ما في الإرشاد من كون أصحاب الميمنة وكذا كل من الأخيرين خبر مبتدأ محذوف كما سمعت لأن المتبادر بعد بيان الانقسام ذكر نفس الأقسام على أن تكون هي المقصودة أولاً وبالذات دون الحكم عليها وبيان أحوالها مطلقاً وإن تضمن ذلك ذكرها لكن ما ذكروه أبعد مغزى ومع هذا لا يتعين على ما ذكر كون تينك الجملتين الاستفهاميتين معترضتين بل يجوز أن يكون كل منهما صفة لما قبلها بتقدير القول كأنه قيل : فأحدها أصحاب الميمنة المقول فيهم { مَا أصحاب الميمنة } وكذا يقال في { وأصحاب المشئمة } الخ ، ويجعل أيضاً { السابقون } صفة للسابقون قبله ، والتأويل في الوصفية كالتأويل في الخبرية ويكون الوصف بذلك قائماً مقام تينك الجملتين في المدح ، والجملة بعد مستأنفة استئنافاً بيانياً كما في الوجه الشائع ، وما يقال : إن في هذا الوجه حذف الموصول مع بعض أجزاء الصلة يجاب عنه بمنع كون أل في الوصف حيث لم يرد منه الحدوث موصولة فتأمل ولا تغفل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عنهم، فقال: {أولئك المقربون} عند الله تعالى في الدرجات والفضائل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"والسّابِقُونَ السّابِقُونَ "وهم الزوج الثالث، وهم الذين سبقوا إلى الإيمان بالله ورسوله، وهم المهاجرون الأوّلون... عن قتادة، قوله: "فَأصْحَابُ المَيْمَنَةِ ما أصحَابُ المَيْمَنَةِ": أي ماذا لهم، وماذا أعدّ لهم "وأصحَابُ المَشأَمَةِ ما أصحَابُ المَشأَمَةِ": أي ماذا لهم وماذا أعدّ لهم "والسّابِقُونَ السّابِقُونَ": أي من كلّ أمة.
[عن] ابن زيد يقول: وجدت الهوى ثلاثة أثلاث، فالمرء يجعل هواه علمه، فيديل هواه على علمه، ويقهر هواه علمه، حتى إن العلم مع الهوى قبيح ذليل، والعلم ذليل، الهوى غالب قاهر، فالذي قد جعل الهوى والعلم في قلبه، فهذا من أزواج النار، وإذا كان ممن يريد الله به خيرا استفاق واستنبه، فإذا هو عون للعلم على الهوى حتى يديل الله العلم على الهوى، فإذا حسُنت حال المؤمن، واستقامت طريقته كان الهوى ذليلاً، وكان العلم غالبا قاهرا، فإذا كان ممن يريد الله به خيرا، ختم عمله بإدالة العلم، فتوفاه حين توفاه، وعلمه هو القاهر، وهو العامل به، وهواه الذليل القبيح، ليس له في ذلك نصيب ولا فعل. والثالث: الذي قبح الله هواه بعلمه، فلا يطمع هواه أن يغلب العلم، ولا أن يكون معه نصف ولا نصيب، فهذا الثالث، وهو خيرهم كلهم، وهو الذي قال الله عزّ وجلّ في سورة الواقعة: وكُنْتُمْ أزْوَاجا ثَلاثَةً قال: فزوجان في الجنة، وزوج في النار، قال: والسابق الذي يكون العلم غالبا للهوى، والاَخر: الذي ختم الله بإدالة العلم على الهوى، فهذان زوجان في الجنة، والاَخر: هواه قاهر لعلمه، فهذا زوج النار.
واختلف أهل العربية في الرافع أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، فقال بعض نحويي البصرة: خبر قوله: "فأصحَابُ المَيْمَنَةِ ما أصحَابُ المَيْمَنَة وأصحَابُ المَشأَمَةِ ما أصحَابُ المَشأَمَةِ" قال: ويقول زيد: ما زيد، يريد: زيد شديد. وقال غيره: قوله: "ما أصحَابُ المَيْمَنَةِ" لا تكون الجملة خبره، ولكن الثاني عائد على الأوّل، وهو تعجب، فكأنه قال: أصحاب الميمنة ما هم، والقارعة ما هي؟ والحاقة ما هي؟ فكان الثاني عائد على الأوّل، وكان تعجبا، والتعجب بمعنى الخبر، ولو كان استفهاما لم يجز أن يكون خبرا للابتداء، لأن الاستفهام لا يكون خبرا، والخبر لا يكون استفهاما، والتعجب يكون خبرا، فكان خبرا للابتداء. وقوله: زيد وما زيد، لا يكون إلا من كلامين، لأنه لا تدخل الواو في خبر الابتداء، كأنه قال: هذا زيد وما هو: أي ما أشدّه وما أعلمه.
واختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله: "والسّابِقُونَ السّابِقُونَ"؛
فقال بعضهم: هم الذين صلوا للقبلتين...
وقال آخرون:... [عن] عثمان بن أبي سودة، قال: "السّابِقُونَ السّابِقُونَ" أوّلهم رواحا إلى المساجد، وأسرعهم خفوقا في سبيل الله...
يقول جلّ ثناؤه: أولئك الذين يقرّبهم الله منه يوم القيامة إذا أدخلهم الجنة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل أن يكون وصف التقريب لهم لمسابقتهم في الخيرات في الدنيا، ويحتمل أنهم مقربون في الآخرة بالكرامات والمنزلة لسبقهم في الخيرات أو في الإجابة: والسبق فعلهم، والتقريب بلطف من الله تعالى وفضل منه، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معناه الذين قربوا من جزيل ثواب الله وعظيم كرامته بالأمر الأكثر الذي لا يبلغه من دونهم في الفضل. والسابقون إلى الطاعات يقربون إلى رحمة الله في أعلا المراتب وأقربها إلى مجالس كرامته بما يظهر لأهل المعرفة منزلة صاحبه في جلالته ويصل بذلك السرور إلى قلبه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ولم يقل: {المتقربون} بل قال: أولئك المُقَرَّبون، فعَلِمَ الكافة أنهم بتقريب ربهِّم سبقوا لا بِتقَرُّبهم...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{أولئك المقربون} الى كرامة الله.
{أولئك المقربون} يقتضي الحصر فينبغي أن لا يكون غيرهم مقربا، وقد قال في حق الملائكة إنهم مقربون، نقول: {أولئك المقربون} من الأزواج الثلاثة، فإن قيل: {فأصحاب الميمنة} ليسوا من المقربين، نقول: للتقريب درجات {والسابقون} في غاية القرب، ولا حد هناك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
المقربون تخلصوا من نفوسهم فأعمالهم كلها لله ديناً ودنيا من حق الله وحق الناس، وكلاهما عندهم حق الله، والدنيا عندهم آخرتهم، لأنهم يراقبون ما يبدو لهم من ملكوته فيتلقونه بالرضا والانقياد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمقرَّب: أبلغ من القريب لدلالة صيغته على الاصطفاء والاجتباء، وذلك قُرب مجازي، أي شُبه بالقرب في ملابسة القريب والاهتمام بشؤونه فإن المطيع بمجاهدته في الطاعة يكون كالمتقرب إلى الله، أي طالب القرب منه فإذا بلغ مرتبة عالية من ذلك قرّبه الله، أي عامله معاملة المقرّب المحبوب، كما جاء: « ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحِبَّه فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به وبصَره الذي يُبصر به ويدَه التي يبطش بها ورجلَه الذي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه» وكل هذه الأوصاف مجازيه تقريباً لمعنى التقريب. ولم يُذكَر متعلِّق {المقربون} لظهور أنه مقرب من الله، أي من عنايته وتفضيله، وكذلك لم يذكر زَمان التقريب ولا مكانُه لقصد تعميم الأزمان والبقاع الاعتبارية في الدنيا والآخرة. وفي جعل المسند إليه اسم إشارة تنبيه على أنهم أحرياء بما يخبر عنه من أجل الوصف الوارد قبل اسم الإشارة وهو أنهم السابقون على نحو ما تقدم في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} في سورة البقرة (5).
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
{أولئك المقربون} ذكر منزلتهم قبل ذكر منزلهم، قبل أن يبدأ بذكر الثواب؛ لأن قربهم من الله -عز وجل- فوق كل شيء، جعلنا الله منهم.