الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (3)

قوله تعالى : " يس " في " يس " أوجه من القراءات : قرأ أهل المدينة والكسائي " يس والقرآن الحكيم " بإدغام النون في الواو . وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة " يس " بإظهار النون . وقرأ عيسى بن عمر " يسن " بنصب النون . وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم " يسن " بالكسر . وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميقع " يسن " بضم النون ، فهذه خمس قراءات . القراءة الأولى بالإدغام على ما يجب في العربية ؛ لأن النون تدغم في الواو . ومن بين قال : سبيل حروف الهجاء أن يوقف عليها ، وإنما يكون الإدغام في الإدراج . وذكر سيبويه النصب وجعله من جهتين : إحداهما أن يكون مفعولا ولا يصرفه ؛ لأنه عنده اسم أعجمي بمنزلة هابيل ، والتقدير أذكر يسين . وجعله سيبويه اسما للسورة . وقوله الآخر أن يكون مبنيا على الفتح مثل كيف وأين . وأما الكسر فزعم الفراء أنه مشبه بقول العرب جير لا أفعل ، فعلى هذا يكون " يسن " قسما . وقاله ابن عباس . وقيل : مشبه بأمس وحذام وهؤلاء ورقاش . وأما الضم فمشبه بمنذ وحيث وقط ، وبالمنادى المفرد إذا قلت يا رجل ، لمن يقف عليه . قال ابن السميقع وهارون : وقد جاء في تفسيرها رجل فالأولى بها الضم . قال ابن الأنباري " " يس " وقف حسن لمن قال هو افتتاح للسورة . ومن قال : معنى " يس " يا رجل لم يقف عليه . وروي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما أن معناه يا إنسان ، وقالوا في قوله تعالى : " سلام على إل ياسين " [ الصافات : 130 ] أي على آل محمد . وقال سعيد بن جبير : هو اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم ، ودليله " إنك لمن المرسلين " . قال السيد الحميري :

يا نفس لا تمَحضِي بالنصح جاهدةً *** على المودة إلا آلَ ياسينَ

وقال أبو بكر الوراق : معناه يا سيد البشر . وقيل : إنه اسم من أسماء الله ؛ قال مالك . روى عنه أشهب قال : سألته هل ينبغي لأحد أن يتسمى بياسين ؟ قال : ما أراه ينبغي لقول الله : " يس والقرآن الحكيم " يقول هذا اسمي يس . قال ابن العربي هذا كلام بديع ، وذلك أن العبد يجوز له أن يتسمى باسم الرب إذا كان فيه معنى منه . كقوله : عالم وقادر ومريد ومتكلم . وإنما منع مالك من التسمية ب " يسين " ؛ لأنه اسم من أسماء الله لا يدرى معناه ، فربما كان معناه ينفرد به الرب فلا يجوز أن يقدم عليه العبد . فإن قيل فقد قال الله تعالى : " سلام على إل ياسين " [ الصافات : 130 ] قلنا : ذلك مكتوب بهجاء فتجوز التسمية به ، وهذا الذي ليس بمتهجى هو الذي تكلم مالك عليه ؛ لما فيه من الإشكال . والله أعلم . وقال بعض العلماء : افتتح الله هذه السورة بالياء والسين وفيهما مجمع الخير : ودل المفتتح على أنه قلب ، والقلب أمير على الجسد ، وكذلك " يس " أمير على سائر السور ، مشتمل على جميع القرآن . ثم اختلفوا فيه أيضا . فقال سعيد بن جبير وعكرمة : هو بلغة الحبشة . وقال الشعبي : هو بلغة طي . الحسن : بلغة كلب . الكلبي : هو بالسريانية فتكلمت به العرب فصار من لغتهم . وقد مضى هذا المعنى في " طه " {[13186]} وفي مقدمة الكتاب مستوفى . وقد سرد القاضي عياض أقوال المفسرين في معنى " يس " فحكى أبو محمد مكي أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لي عند ربي عشرة أسماء ) ذكر أن منها طه ويس اسمان له . قلت : وذكر الماوردي عن علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله تعالى أسماني في القرآن سبعة أسماء محمد وأحمد وطه ويس والمزمل والمدثر وعبد الله ) قاله القاضي . وحكى أبو عبدالرحمن السلمي عن جعفر الصادق أنه أراد يا سيد ، مخاطبة لنبيه صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس : " يس " يا إنسان أراد محمدا صلى الله عليه وسلم . وقال : هو قسم وهو من أسماء الله سبحانه . وقال الزجاج : قيل معناه يا محمد وقيل يا رجل وقيل يا إنسان . وعن ابن الحنفية : " يس " يا محمد . وعن كعب : " يس " قسم أقسم الله به قبل أن يخلق السماء والأرض بألفي عام قال{[13187]} يا محمد : " إنك لمن المرسلين " ثم قال : " والقرآن الحكيم " . فإن قدر أنه من أسمائه صلى الله عليه وسلم ، وصح فيه أنه قسم كان فيه من التعظيم ما تقدم ، مؤكد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه . وإن كان بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته والشهادة بهدايته . أقسم الله تعالى باسمه وكتابه أنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده ، وعلى صراط مستقيم من إيمانه ، أي طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق . قال النقاش : لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له ، وفيه من تعظيمه وتمجيده على تأويل من قال إنه يا سيد ما فيه ، وقد قال عليه السلام : ( أنا سيد ولد آدم ) انتهى كلامه . وحكى القشيري قال ابن عباس : قالت كفار قريش لست مرسلا وما أرسلك الله إلينا ، فأقسم الله بالقرآن المحكم أن محمدا من المرسلين . " الحكيم " المحكم حتى لا يتعرض لبطلان وتناقض ؛ كما قال : " أحكمت آياته " [ هود : 1 ] . وكذلك أحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل . وقد يكون " الحكيم " في حق الله بمعنى المحكم بكسر الكاف كالأليم بمعنى المؤلم .


[13186]:راجع ج 11 ص 165 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. و ج 1 ص 67 وما بعدها طبعة ثانية.
[13187]:زيادة يقتضيها المقام، ويدل عليها ما ورد في "الدر المنثور" للسيوطي عن كعب.