اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (3)

قوله : { إنَّكَ } جواب القسم{[45673]} و { على صِرَاط } يجوز أن يكون متعلقاً ب «المُرْسَلِين »{[45674]} يقول : أَرْسَلْتُ عليه ، كما قال تعالى : { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً } [ الفيل : 3 ] وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكنِّ في «لَمِنَ المُرْسَلِين » لوقوعه خبراً{[45675]} ، وأن يكون حالاً من{[45676]} «المُرْسَلِينَ » وأن يكون خبراً ثانياً ل «إنَّكَ »{[45677]} .

فصل

أقسم بالقرآن على أن محمداً من المرسلين . وهو رد على الكفار ، حيث قالوا : ( لَسْتَ{[45678]} مُرْسَلاً ) .

فإن قيل : المطلب ثبت{[45679]} بالدليل لا بالقسم فما الحكمة بالإقْسَام ؟ ! .

فالجواب من وجوه :

الأول : إن العرب كانوا يتقون{[45680]} الأيمان الفاجرة وكانوا يقولون بأن الأيْمَان الفاجرة توجب خراب العالم وصحح النبي - عليه الصلاة والسلام{[45681]}- ذلك بقوله : «اليَمينُ الكَاذِبَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلاَقِعَ » . ثم إنهم كانوا يقولون : إن النبي عليه - ( الصلاة{[45682]} و ( السلام - يصيبه عذاب آلهتهم ، وهي الكواكب والنبي عليه ( الصلاة و ) السلام يحلف بأمر الله وإنزال كلامه عليه بأشياء مختلفة ، وما كان يصيبه عذاب بل كان كل يوم أرْفَعَ شَأْناً وأمْنَعَ مَكَاناً ، فكان ذلك يوجب اعتقاد أنه ليس بكاذب .

الثاني : أن المُتَنَاظِرَ ( يْنِ ){[45683]} إذا وقع بينهما كلام ، وغلب أحدهما الآخر بتمشية دليله وأسكته يقول المغلوب : إنك قدرت هذا بقوة جدالك ، وأنت خبير في نفسك بضعف مقالتك ، وتعلم أن الأمر ليس كما تقول وإن أقمت عليه الدليل صورة ، وعجزت أنا عن القدح فيه وهذا كثير الوقوع بين المُتَناظِرَيْنِ فعند هذا لا يجوز أن يأتي هو بدليل آخر ؛ لأن الساكت المنقطع يقول في الدليل الآخر ما قاله في الأول ، فلا يجد أمراً إلا باليمين فيقول : وَاللَّهِ إنِّي لَسْتُ مُكَابِراً ، وإنَّ الأمر على ما ذكرت ولم علمت خلافه لرَجَعْتُ إليه فههنا يتعين اليمين ، فكذلك النبي عليه ( الصلاة و ) السلام أقام البراهين ، وقالت الكفرة : { مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ } [ سبأ : 43 ] وقالوا { لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ الأحقاف : 7 ] فالتمسك{[45684]} بالأيْمان لعدم فائدة .

الدليل الثالث : أن هذا ليس مجرد الحلف بل دليل خرج في صورة اليمين ؛ لأن القرآن معجزة ودليل كَوْنه مُرْسَلاً هو المعجزة والقرآن كذلك .

فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكر في صورة الدليل ؟ وما الحكمة في صورة اليمين ؟

فالجواب : أن الدليل إذا ذكر لا في صورة اليمين ، قد لا يُقْبِلُ عليه السامع فلا يفيد فائدة ، فإذا ابتدأ{[45685]} به على صورة اليمين لا يقع ولا سيما من العظيم إلا على عظيم ، والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصْغاء إليه فلصورة اليمين تقبل عليه الأسماع لكونه دليلاً شافياً يتشربه الفؤاد فيقع في السمع وفي القلب .


[45673]:وهو يس والقرآن الحكيم. انظر: الدر المصون 4/494.
[45674]:الكشاف 3/314 والبيان 2/290.
[45675]:ذكره أبو البقاء في التبيان 1078.
[45676]:الدر المصون للسمين الحلبي 4/494.
[45677]:رجحه الزجاج والفراء في معانيهما. انظر: معاني الزجاج 4/278 ومعاني الفراء 2/272 ومشكل إعراب القرآن لمكي 2/221 والبيان لابن الأنباري 2/290. وقد قال الزجاج: "وأحسن ما في العربية أن يكون "لمن المرسلين" خبر إن ويكون "على صراط مستقيم" خبرا ثانيا". انظر معاني القرآن للزجاج 4/78.
[45678]:ما بين القوسين ساقط من "ب" وهي من الآية 43 من سورة الرعد.
[45679]:في "ب" يثبت بالمضارعة.
[45680]:كذا هي في النسختين وفي الرازي: يتوقون.
[45681]:في "ب" صلى الله عليه وسلم.
[45682]:ما بين القوسين زيادة من "ب".
[45683]:في ب "المتناظر" فقط.
[45684]:في "ب" والمتمسك.
[45685]:وفيها ابتدىء للمجهول.