الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{يسٓ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية بإجماع . وهي ثلاث وثمانون آية ، إلا أن فرقة قالت : إن قوله تعالى " ونكتب ما قدموا وآثارهم " [ يس : 12 ] نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم ، وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، على ما يأتي . وفي كتاب أبي داود عن معقل بن يسار قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اقرؤوا يس على موتاكم ) . وذكر الآجري من حديث أم الدرداء{[1]} عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من ميت يقرأ عليه سورة يس إلا هون الله عليه ) . وفي مسند الدارمي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ سورة يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة ) خرجه أبو نعيم الحافظ أيضا . وروى الترمذي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس ، ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات ) قال : هذا حديث غريب ، وفي إسناده هارون أبو محمد شيخ مجهول . وفي الباب عن أبي بكر الصديق ، ولا يصح حديث أبي بكر من قبل إسناده ، وإسناده ضعيف . وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن في القرآن لسورة تشفع لقرائها ويغفر لمستمعها ألا وهي سورة يس تدعى في التوراة المعمة ) قيل : يا رسول الله وما المعمة ؟ قال : تعم صاحبها بخير الدنيا وتدفع عنه أهاويل الآخرة ، وتدعى الدافعة والقاضية قيل : يا رسول الله وكيف ذلك ؟ قال : تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة ومن قرأها عدلت له عشرين حجة ، ومن سمعها كانت له كألف دينار تصدق بها في سبيل الله ، ومن كتبها وشربها أدخلت جوفه ألف دواء وألف نور وألف يقين وألف رحمة وألف رأفة وألف هدى ونزع عنه كل داء وغل ) . ذكره الثعلبي من حديث عائشة ، والترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه مسندا . وفي مسند الدارمي عن شهر بن حوشب قال : قال ابن عباس : من قرأ " يس " حين يصبح أعطي يسر يومه حتى يمسي ، ومن قرأها في صدر ليلته أعطي يسر ليلته حتى يصبح . وذكر النحاس عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : لكل شيء قلب وقلب القرآن يس من قرأها نهارا كفي همه ومن قرأها ليلا غفر ذنبه . وقال شهر بن حوشب : يقرأ أهل الجنة " طه " و " يس " فقط .

رفع هذه الأخبار الثلاثة الماوردي فقال : روى الضحاك عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن لكل شيء قلبا وإن قلب القرآن يس ، ومن قرأها في ليلة أعطي يسر تلك الليلة ، ومن قرأها في يوم أعطي يسر ذلك اليوم ، وإن أهل الجنة يرفع عنهم القرآن فلا يقرؤون شيئا إلا طه ويس ) . وقال يحيى بن أبي كثير : بلغني أن من قرأ سورة " يس " ليلا لم يزل في فرح حتى يصبح ، ومن قرأها حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي . وقد حدثني من جربها . ذكره الثعلبي وابن عطية . قال ابن عطية : ويصدق ذلك التجربة . وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن الصلت عن عمر بن ثابت عن محمد بن مروان عن أبي جعفر قال : من وجد في قلبه قساوة فليكتب " يس " في جام بزعفران ثم يشربه . حدثني أبي رحمه الله قال : حدثنا أصرم بن حوشب ، عن بقية بن الوليد ، عن المعتمر بن أشرف ، عن محمد بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( القرآن أفضل من كل شيء دون الله وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ، فمن وقر القرآن فقد وقر الله ، ومن لم يوقر القرآن لم يوقر الله ، وحرمة القرآن عند الله كحرمة الوالد على ولده . القرآن شافع مشفع وماحل{[2]} مصدق فمن شفع له القرآن شفع ، ومن محل به القرآن صُدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار . وحملة القرآن هم المحفوفون بحرمة الله الملبسون نور الله المعلمون كلام الله من والاهم فقد والى الله ومن عاداهم فقد عادى الله ، يقول الله تعالى : يا حملة القرآن استجيبوا لربكم بتوقير كتابه يزدكم حبا ويحببكم إلى عباده يدفع عن مستمع القرآن بلوى الدنيا ويدفع عن تالي{[3]} القرآن بلوى الآخرة ، ومن استمع آية من كتاب الله كان له أفضل مما تحت العرش إلى التخوم ، وإن في كتاب الله لسورة تدعى العزيزة ويدعى صاحبها الشريف يوم القيامة تشفع لصاحبها في أكثر من ربيعة ومضر وهي سورة يس ) . وذكر الثعلبي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قرأ سورة يس ليلة الجمعة أصبح مغفورا له ) . وعن أنس أن رسول الله صلى قال : ( من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد حروفها حسنات ) .

قوله تعالى : " يس " في " يس " أوجه من القراءات : قرأ أهل المدينة والكسائي " يس والقرآن الحكيم " بإدغام النون في الواو . وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة " يس " بإظهار النون . وقرأ عيسى بن عمر " يسن " بنصب النون . وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم " يسن " بالكسر . وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميقع " يسن " بضم النون ، فهذه خمس قراءات . القراءة الأولى بالإدغام على ما يجب في العربية ؛ لأن النون تدغم في الواو . ومن بين قال : سبيل حروف الهجاء أن يوقف عليها ، وإنما يكون الإدغام في الإدراج . وذكر سيبويه النصب وجعله من جهتين : إحداهما أن يكون مفعولا ولا يصرفه ؛ لأنه عنده اسم أعجمي بمنزلة هابيل ، والتقدير أذكر يسين . وجعله سيبويه اسما للسورة . وقوله الآخر أن يكون مبنيا على الفتح مثل كيف وأين . وأما الكسر فزعم الفراء أنه مشبه بقول العرب جير لا أفعل ، فعلى هذا يكون " يسن " قسما . وقاله ابن عباس . وقيل : مشبه بأمس وحذام وهؤلاء ورقاش . وأما الضم فمشبه بمنذ وحيث وقط ، وبالمنادى المفرد إذا قلت يا رجل ، لمن يقف عليه . قال ابن السميقع وهارون : وقد جاء في تفسيرها رجل فالأولى بها الضم . قال ابن الأنباري " " يس " وقف حسن لمن قال هو افتتاح للسورة . ومن قال : معنى " يس " يا رجل لم يقف عليه . وروي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما أن معناه يا إنسان ، وقالوا في قوله تعالى : " سلام على إل ياسين " [ الصافات : 130 ] أي على آل محمد . وقال سعيد بن جبير : هو اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم ، ودليله " إنك لمن المرسلين " . قال السيد الحميري :

يا نفس لا تمَحضِي بالنصح جاهدةً *** على المودة إلا آلَ ياسينَ

وقال أبو بكر الوراق : معناه يا سيد البشر . وقيل : إنه اسم من أسماء الله ؛ قال مالك . روى عنه أشهب قال : سألته هل ينبغي لأحد أن يتسمى بياسين ؟ قال : ما أراه ينبغي لقول الله : " يس والقرآن الحكيم " يقول هذا اسمي يس . قال ابن العربي هذا كلام بديع ، وذلك أن العبد يجوز له أن يتسمى باسم الرب إذا كان فيه معنى منه . كقوله : عالم وقادر ومريد ومتكلم . وإنما منع مالك من التسمية ب " يسين " ؛ لأنه اسم من أسماء الله لا يدرى معناه ، فربما كان معناه ينفرد به الرب فلا يجوز أن يقدم عليه العبد . فإن قيل فقد قال الله تعالى : " سلام على إل ياسين " [ الصافات : 130 ] قلنا : ذلك مكتوب بهجاء فتجوز التسمية به ، وهذا الذي ليس بمتهجى هو الذي تكلم مالك عليه ؛ لما فيه من الإشكال . والله أعلم . وقال بعض العلماء : افتتح الله هذه السورة بالياء والسين وفيهما مجمع الخير : ودل المفتتح على أنه قلب ، والقلب أمير على الجسد ، وكذلك " يس " أمير على سائر السور ، مشتمل على جميع القرآن . ثم اختلفوا فيه أيضا . فقال سعيد بن جبير وعكرمة : هو بلغة الحبشة . وقال الشعبي : هو بلغة طي . الحسن : بلغة كلب . الكلبي : هو بالسريانية فتكلمت به العرب فصار من لغتهم . وقد مضى هذا المعنى في " طه " {[13186]} وفي مقدمة الكتاب مستوفى . وقد سرد القاضي عياض أقوال المفسرين في معنى " يس " فحكى أبو محمد مكي أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لي عند ربي عشرة أسماء ) ذكر أن منها طه ويس اسمان له . قلت : وذكر الماوردي عن علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله تعالى أسماني في القرآن سبعة أسماء محمد وأحمد وطه ويس والمزمل والمدثر وعبد الله ) قاله القاضي . وحكى أبو عبدالرحمن السلمي عن جعفر الصادق أنه أراد يا سيد ، مخاطبة لنبيه صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس : " يس " يا إنسان أراد محمدا صلى الله عليه وسلم . وقال : هو قسم وهو من أسماء الله سبحانه . وقال الزجاج : قيل معناه يا محمد وقيل يا رجل وقيل يا إنسان . وعن ابن الحنفية : " يس " يا محمد . وعن كعب : " يس " قسم أقسم الله به قبل أن يخلق السماء والأرض بألفي عام قال{[13187]} يا محمد : " إنك لمن المرسلين " ثم قال : " والقرآن الحكيم " . فإن قدر أنه من أسمائه صلى الله عليه وسلم ، وصح فيه أنه قسم كان فيه من التعظيم ما تقدم ، مؤكد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه . وإن كان بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته والشهادة بهدايته . أقسم الله تعالى باسمه وكتابه أنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده ، وعلى صراط مستقيم من إيمانه ، أي طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق . قال النقاش : لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له ، وفيه من تعظيمه وتمجيده على تأويل من قال إنه يا سيد ما فيه ، وقد قال عليه السلام : ( أنا سيد ولد آدم ) انتهى كلامه . وحكى القشيري قال ابن عباس : قالت كفار قريش لست مرسلا وما أرسلك الله إلينا ، فأقسم الله بالقرآن المحكم أن محمدا من المرسلين . " الحكيم " المحكم حتى لا يتعرض لبطلان وتناقض ؛ كما قال : " أحكمت آياته " [ هود : 1 ] . وكذلك أحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل . وقد يكون " الحكيم " في حق الله بمعنى المحكم بكسر الكاف كالأليم بمعنى المؤلم .


[1]:لعله عمرو بن مرة المذكور في سند الحديث (انظر ابن ماجه ج 1 ص 139 وسنن أبي داود ج 1 ص 77 طبع مصر).
[2]:في بعض النسخ: "أبي قاسم"
[3]:في بعض النسخ: "المسيي".
[13186]:راجع ج 11 ص 165 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. و ج 1 ص 67 وما بعدها طبعة ثانية.
[13187]:زيادة يقتضيها المقام، ويدل عليها ما ورد في "الدر المنثور" للسيوطي عن كعب.