وحين يبلغ السياق إلى هذا الحد من عرض هذه الحقائق والأسرار ، الناطقة بدلائل الإيمان . الميسرة للقلوب والأذهان . يلتفت إلى الحقيقة التي تنتهي إليها هذه الحقائق . حقيقة وجود الله وعظمته وربوبيته . وهي حقيقة تواجه الفطرة مواجهة ذات قوة وسلطان . فيهيب بالرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يحيي هذه الحقيقة ويؤدي حقها ؛ ويلمس القلوب بها في حينها :
{ فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم } مرتب على ما عدد من بدائع صنعه عز وجل وودائع نعمه سبحانه وتعالى ، والمراد على ما قيل : أحدث التسبيح تنزيلاً للفعل المتعدي منزلة اللازم ، وأريد من إحداثه استمراره لا إيجاده لأنه عليه الصلاة والسلام غير معرض عنه ، وتعقبه الطيبي بأن هذا عكس ما يقتضيه لفظ الإحداث ، فالمراد تجديد التسبيح ، وفي الكلام إضمار أي سبح بذكر اسم ربك ، أو الاسم مجاز عن الذكر فإن إطلاق الاسم للشيء ذكره ، والباء للاستعانة أو الملابسة وكونها للتعدية كما هو ظاهر كلام أبي حيان ليس بشيء ، والعظيم صفة للاسم ، أو للرب ، وتعقيب الأمر بالتسبيح لما عدد إما لتنزيهه تعالى عما يقولوه الجاحدون لوحدانيته عز وجل الكافرون بنعمه سبحانه مع عظمها وكثرتها ، أو للشكر على تلك النعم السابقة لأن تنزيهه تعالى وتعظيمه جل وعلا بعد ذكر نعمه سبحانه مدح عليها فهو شكر للمنعم في الحقيقة ، أو للتعجب من أمر الكفرة في غمط تلك النعم الباهرة مع جلالة قدرها وظهور أمرها ؛ وسبحان ترد للتعجب مجازاً مشهوراً فسبح بمعنى تعجب ، وأصله فقل سبحان الله للتعجب وفيه بعد وما تقدم أظهر .
هذا وجوز أن لا يكون في { باسم رَبّكَ } إضمار ولا مجاز بل يبقى على ظاهره فقد قالوا في قوله تعالى : { سَبِّحِ اسم رَبّكَ الاعلى } [ الأعلى : 1 ] : كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته سبحانه عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن سوء الأدب وهو أبلغ لأنه يلزمه تقديس ذاته عز وجل بالطريق الأولى على طريق الكناية الرمزية ، وفيه أنه إنما يتأتى لو لم تذكر الباء ، وجعلها زائدة خلاف الظاهر ، وحال كونها للتعدية قد سمعته ، وجعل بعضهم على هذا الخطاب لغير معين فقال : إنه تعالى لما ذكر ما ذكر من الأمور وكان الكل معترفين بأنها من الله تعالى وكان الكفار إذا طولبوا بالوحدانية قالوا : نحن لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصناماً آلهة وذلك إشراك في الاسم ، والذي خلقنا وخلق السموات والأرض هو الله تعالى فنحن ننزهه في الحقيقة قال سبحانه : { فَسَبّحْ باسم رَبّكَ } على معنى كما أنك أيها الغافل اعترفت بعدم اشتراكها في الحقيقة اعترف بعدم اشتراكها في الاسم ولا تقل لغيره تعالى إلهاً فإن الاسم يتبع المعنى والحقيقة ، فالخطاب كالخطاب في قول الواعظ يا مسكين أفنيت عمرك وما أصلحت أمرك لا يريد به أحداً بعينه ، وإنما يريد أيها المسكين السامع وهو كما ترى ، نعم احتمال عموم الخطاب مما لا ينكر لكن لا يتعين عليه هذا التقرير ، ثم الظاهر أن المراد بذكر الرب أو ذكر اسمه سبحانه على ما تقرر سابقاً ما هو المتبادر المعروف .
وفي «الكشف » إن المراد بذلك تلاوته صلى الله عليه وسلم للقرآن أو لهذه السورة الكريمة المتضمنة لإثبات البعث والجزاء ومراتب أهله لينطبق عليه قوله تعالى بعد : { فَلاَ أُقْسِمُ } [ الواقعة : 57 ] وعلى الأول لا بد من إضمار أي فسبح باسم ربك وامتثل ما أمرت به فأقسم أنه لقرآن ، والغرض تأكيد الأمر بالتسبيح ، وأنا أقول يتأتى الانطباق على الظاهر أيضاً سوى أنه يعتبر في الكلام إضمار ولا بأس بأن يقال : إنه تعالى لما ذكر ما ذكر من النعم الجليلة الداعية لتوحيده سبحانه ووصفه بما يليق به عز وجل قال سبحانه : { فَسَبّحْ باسم رَبّكَ } أي فنزهه تعالى عما يقولون في وصفه سبحانه ، وأقبل على إنذارهم بالقرآن والاحتجاج عليهم به بعد الاحتجاج بما ذكرنا فأقسم أنه لقرآن كيت وكيت
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فسبح يا محمد بذكر ربك العظيم، وتسميته.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) والمراد به جميع المكلفين بأن "فسبح بحمد ربك العظيم " أي نزه الله تعالى عما لا يليق به، وأدعه باسمه العظيم...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
...كأنه أرشده إلى الاشتغال بتنزيه الرب وتسبيحه وتقديسه حين لزم الكفار الحجة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
و {العظيم} صفة للمضاف أو للمضاف إليه. والمعنى: أنه لما ذكر ما دل على قدرته وإنعامه على عباده قال: فأحدث التسبيح وهو أن يقول: سبحان الله، إمّا تنزيهاً له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته ويكفرون نعمته، وإما تعجباً من أمرهم في غمط آلائه وأياديه الظاهرة، وإما شكراً لله على النعم التي عدّها ونبه عليها.
التسبيح: التنزيه عما لا يليق به فما فائدة ذكر الاسم ولم يقل: فسبح بربك العظيم؟ فنقول الجواب عنه من وجهين؛
(أحدهما) هو المشهور وهو أن الاسم مقحم، وعلى هذا الجواب فنقول: فيه فائدة زيادة التعظيم، لأن من عظم عظيما وبالغ في تعظيمه لم يذكر اسمه إلا وعظمه، فلا يذكر اسمه في موضع وضيع ولا على وجه الاتفاق كيفما اتفق، وذلك لأن من يعظم شخصا عند حضوره ربما لا يعظمه عند غيبته فيذكره باسم علمه، فإن كان بمحضر منه لا يقول ذلك، فإذا عظم عنده لا يذكره في حضوره وغيبته إلا بأوصاف العظمة... أن يكون المراد بذكر ربك، أي إذا قلت: وتولوا، فسبح ربك بذكر اسمه بين قومك واشتغل بالتبليغ، والمعنى اذكره باللسان والقلب وبين وصفه لهم وإن لم يقبلوا فإنك مقبل على شغلك الذي هو التبليغ، ولو قال: فسبح ربك، ما أفاد الذكر لهم، وكان ينبئ عن التسبيح بالقلب، ولما قال: فسبح باسم ربك، والاسم هو الذي يذكر لفظا دل على أنه مأمور بالذكر اللساني وليس له أن يقتصر على الذكر القلبي ويحتمل أن يقال: (فسبح) مبتدئا باسم ربك العظيم فلا تكون الباء زائدة.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ووصف تعالى نفسه بالعظيم، إذ من هذه أفعاله تدل على عظمته وكبريائه وانفراده بالخلق والإنشاء...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فسبح} أي أوقع التنزيه العظيم عن كل شائبة نقص من ترك البعث وغيره ولا سيما بعد بلوغ هذه الأدلة إلى حد المحسوس تسبيح متعجب من آثار قدرته الدالة على تناهي عظمته وتسبيح شكر له وتعظيم له وإكبار وتنزيه عما يقول الجاحدون وتعجيب منهم مقتدياً بجميع ما في السماوات...ولما كان تعظيم الاسم أقعد في تعظيم المسمى قال: {باسم} أي متلبساً بذكر اسم {ربك} أي المحسن بعد التربية إليك بهذا البيان الأعظم بما خصك به مما لم يعطه أحداً غيرك، وأثبتوا ألف الوصل هنا لأنه لم يكثر دوره كثرته في البسملة منها وحذفوه منها لكثرة دورها وهم شأنهم الإيجاز وتقليل الكثير إذا عرف معناه، وهذا معروف لا يجهل، وإثبات ما أثبت من أشكاله مما لا يكثر دليل على الحذف منه، وكذا لا تحذف الألف مع غير الباء في اسم الله ولا مع الباء في غير الجلالة من الأسماء لما تقدم من العلة. ولما كان المقام للتعظيم قال: {العظيم} الذي ملأ الأكوان كلها عظمة، فلا شيء منها إلا وهو مملوء بعظمته تنزهاً عن أن تلحقه شائبة نقص أو يفوته شيء من كمال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا الأمر شامل للمسلمين بقرينة أن القرآن متلوّ لهم وأن ما تفرع الأمر عليه لا يختص علمه بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما أُمر بالتسبيح لأجله فكذلك من عَلمه من المسلمين. والمعنى: إذ علمتم ما أنزلنا من الدلائل وتذكرتم ما في ذلك من النعم فنزهوا الله وعظّموه بقُصارى ما تستطيعون. و {العظيم} صَالح لأن يجعل وصفاً ل {ربك}، وهو عظيم بمعنى ثبوت جميع الكمال له وهذا مجاز شائع ملحق بالحقيقة؛ وصالح لأن يكون وصفاً ل {اسم} والاسم عظيم عظمة مجازية ليُمْنه ولعظمة المسمّى به.