ثم يموهون على الناس بظواهر العقيدة القريبة منهم . عقيدة أهل الكتاب . بعدما دخلت إليها الأساطير التي حرفتها عن التوحيد الخالص فيقولون :
( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة . إن هذا إلا اختلاق ) .
وكانت عقيدة التثليث قد شاعت في المسيحية . وأسطورة العزير قد شاعت كذلك في اليهودية . فكبراء قريش كانوا يشيرون إلى هذا وهم يقولون : ( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ) . . ما سمعنا بهذا التوحيد المطلق لله . الذي جاء به محمد [ صلى الله عليه وسلم ] فما يقول إذن إلا اختلاقاً !
ولقد حرص الإسلام حرصا شديداً على تجريد عقيدة التوحيد وتخليصها من كل ما علق بها من الأساطير والأوشاب والانحرافات التي طرأت على العقائد التي سبقته . حرص هذا الحرص لأن التوحيد حقيقة أولية كبيرة يقوم عليها هذا الوجود كله ؛ ويشهد بها هذا الوجود شهادة واضحة أكيدة . ولأن هذا التوحيد في الوقت ذاته قاعدة لا تصلح الحياة البشرية كلها في أصولها وفروعها إلا إذا قامت عليها .
ويحسن ونحن نستعرض مقاومة قريش لهذه العقيدة ودهشتها وعجبها من جعل الآلهة إلهاً واحداً . ومقاومة المشركين قبل قريش على مدار القرون ومدار الرسالات لهذه الحقيقة كذلك . وإصرار كل رسول عليها ، وقيام كل رسالة على أساسها . والجهد الضخم الذي بذل في إقرار هذه الحقيقة في نفوس البشر على مدار الزمان . . يحسن أن نتوسع قليلاً في بيان قيمة هذه الحقيقة .
إنها حقيقة أولية كبيرة يقوم عليها الوجود ، ويشهد بها كل ما في الوجود . .
إن وحدة النواميس الكونية التي تتحكم في هذا الكون الذي نراه واضحة ؛ وناطقة بأن الإرادة التي أنشأت هذه النواميس لا بد أن تكون واحدة . . وحيثما نظرنا إلى هذا الكون واجهتنا هذه الحقيقة ، حقيقة وحدة النواميس . وحدة تشي بوحدة الإرادة .
كل ما في هذا الكون في حركة دائمة منتظمة . . الذرة الصغيرة وهي الوحدة الأولى لكل ما في الكون من شيء - حي أو غير حي - في حركة مستمرة . فهي مؤلفة من الكترونات تتحرك حول النواة المؤلفة من بروتونات . كما تدور الكواكب حول الشمس في المجموعة الشمسية . وكما تدور المجرة المؤلفة من مجموعات شمسية ومن كتل سديمية حول نفسها . . واتجاه الدورة في الكواكب وفي الشمس وفي المجرة اتجاه واحد من الغرب إلى الشرق . عكس دورة الساعة ! .
والعناصر التي تتكون منها الأرض وبقية الكواكب السيارة واحدة . وعناصر النجوم هي كذلك من عناصر الأرض . والعناصر مؤلفة من ذرات . والذرات مؤلفة من الكترونات وبروتونات ونيوترونات . . كلها مؤلفة من هذه اللبنات الثلاث بلا استثناء . .
" وفي الوقت الذي ترد فيه المادة إلى ثلاث لبنات . يرد العلماء " القوى " إلى أصل واحد : الضوء والحرارة . الأشعة السينية ، الأشعة اللاسلكية ، الأشعة الجيمية . وكل إشعاع في الدنيا . . كلها صور متعددة لقوة واحدة . تلك القوة المغناطيسية الكهربائية . إنها جميعاً تسير بسرعة واحدة ، وما اختلافها إلا اختلاف موجة .
" المادة ثلاث لبنات . والقوى موجات متأصلات .
" ويأتي أينشتين وفي نظريته النسبية الخاصة ، يكافىء بين المادة والقوى ويقول : إن المادة والقوى شيء سواء . وتخرج التجارب تصدق دعواه . وخرجت تجربة أخيرة صدقت دعواه بأعلى صوت تسمعه الدنيا . ذلك انفلاق الذرة في القنبلة اليودينوتية .
" المادة والقوى إذن شيء سواء " .
هذه هي الوحدة في تكوين الكون كما عرفها الإنسان أخيراً في تجاربه المحسوسة . . وهناك الوحدة الظاهرة في نظام الكون كما أشرنا إلى قانون الحركة الدائبة . ثم هي الحركة المنظمة المنسقة التي لا يشذ فيها شيء في هذا الكون . ولا يضطرب فيها شيء . . توازن هذه الحركة في جميع الكائنات بحيث لا يعطل بعضها بعضاً ولا يصدم بعضها بعضاً . وأقرب مثل هذه الكواكب والنجوم والمجرات الضخمة التي تسبح في الفضاء : ( وكل في فلك يسبحون ) . . والتي تشهد بأن مجريها في هذا الفضاء ، المنظم لحركتها وأبعادها ومواقعها واحد لا يتعدد ، عارف بطبيعتها وحركتها . مقدر لهذا كله في تصميم هذا الكون العجيب .
ونكتفي بهذه اللمحة الخاطفة في تتبع حقيقة الوحدة التي ينطق بها نظام هذا الكون ويشهد بها كل ما فيه . وهي حقيقة لا يستقيم أمر هذه البشرية إلا عليها . فوضوح هذه الحقيقة في الضمير البشري ذو أهمية بالغة في تصور البشر للكون من حولهم ، ولموضعهم هم في هذا الكون ، ولعلاقتهم بكل ما فيه من أشياء وأحياء . ثم في تصورهم لله الواحد ولحقيقة ارتباطهم به ، وبما عداه ومن عداه في هذا الوجود . . وكل ذلك ذو أهمية بالغة في تكييف مشاعر البشر وتصورهم لكل شؤون الحياة .
والمؤمن بالله الواحد ، المدرك لمعنى هذه الوحدانية ، يكيف علاقته بربه على هذا الأساس ، ويضع علاقته بمن عدا الله وبما عداه ، في موضعها الذي لا تتعداه . فلا تتوزع طاقاته ومشاعره بين آلهة مختلفة الأمزجة ! ولا بين متسلطين عليه غير الله ممن خلق الله !
والمؤمن بأن الله الواحد هو مصدر هذا الوجود الواحد يتعامل مع الوجود ومن فيه وما فيه على أساس من التعارف والتعاون والألفة والمودة ، يجعل للحياة طعماً وشكلاً غير ما لها في نفس من لا يؤمن بهذه الوحدة ، ولا يحسها بينه وبين كل ما حوله ومن حوله .
والمؤمن بوحدة الناموس الإلهي في الكون يتلقى تشريعات الله له وتوجيهاته تلقياً خاصاً ، لينسق بين القانون الذي يحكم حياة البشر والناموس الذي يحكم الكون كله ؛ ويؤثر قانون الله ، لأنه هو الذي ينسق بين حركة البشر وحركة الكون العام .
وعلى الجملة فإن إدراك هذه الحقيقة ضروري لصلاح الضمير البشري واستقامته واستنارته وتصالحه مع الكون من حوله . وتنسيق حركته مع الحركة الكونية العامة . ووضوح الارتباطات بينه وبين خالقه . ثم بينه وبين الكون حوله . ثم بينه وبين كل ما في الكون من أحياء ومن أشياء ! وما يتبع هذا من تأثرات أخلاقية وسلوكية واجتماعية وإنسانية عامة في كل مجال من مجالات الحياة .
ومن ثم كان هذا الحرص على إقرار عقيدة التوحيد . وكان هذا الجهد الموصول المكرور مع كل رسالة وكل رسول . وكان هذا الإصرار من الرسل - صلوات الله عليهم - على كلمة التوحيد بلا هوادة .
وفي القرآن الكريم يتضح الحرص والجهد والإصرار في تكرار عرض قضية التوحيد ومقتضياتها في السور المكية على وجه التخصيص وفي السور المدنية كذلك في صور تناسب طبيعة الموضوعات التي تعالجها السور المدنية .
وهذه هي الحقيقة التي كان المشركون يعجبون ذلك العجب من إصرار محمد [ صلى الله عليه وسلم ] عليها ويحاورونه فيها ويداورونه ، ويعجبون الناس منه ومنها ، ويصرفونهم عنها بكل وسيلة .
وقولهم : { ما سمعنا بهذا } يريدون بمثل هذه المقالة أن الإله واحد .
واختلف المتأولون في قولهم : { في الملة الآخرة } فقال مجاهد : أرادوا ملتهم ونحلتهم التي العرب عليها ، ويقال لكل ما تتبعه أمة ما ملة . وقال ابن عباس والسدي : أراد ملة النصارى ، وذلك متجه ، لأنها ملة شهير فيها التثليث ، وأن الإله ليس بواحد . وقالت فرقة معنى قولهم : { ما سمعنا } أنه يكون مثل هذا ، ولا أنه يقال في الملة الآخرة التي كنا نسمع أنها تكون آخر الزمان ، وذلك أنه قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كان الناس يستشعرون خروج نبي وحدوث ملة ودين ، ويدل على صحة هذا ما روي من قول الأحبار ذوي الصوامع ، وروي عن شق وسطيح ، وما كانت بنو إسرائيل تعتقد من أنه يكون منهم .
وقولهم : { إن هذا إلا اختلاق } إشارة إلى جميع ما يخبر به محمد صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى .
وقوله : { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة } من كلام المَلأ . والإِشارة إلى ما أشير إليه بقولهم : { إن هذا لشيء يراد } ، أي هذا القول وهو { أجعَلَ الآلهة إلها واحداً } [ ص : 5 ] .
والجملة مستأنفة أو مبينة لجملة { إنَّ هذا لشيءٌ يُرادُ } لأن عدم سماع مثله يبين أنه شيء مصطنع مبتدع . وإعادة اسم الإِشارة من وضع الظاهر موضع المضمر لقصد زيادة تمييزه . وفي قوله : { بهذا } تقدير مضاف ، أي بمثل هذا الذي يقوله . ونفي السماع هنا خبر مستعمل كناية عن الاستبعاد والاتّهام بالكذب .
و { الملة } : الدين ، قال تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } في سورة [ البقرة : 120 ] ، وقال : { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون باللَّه وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب } في سورة [ يوسف : 37 - 38 ] .
( و { الآخِرة } : تأنيث الآخِر وهو الذي يكون بعد مضي مدة تقررت فيها أمثاله كقوله تعالى : { ثم اللَّه ينشىء النشأة الآخرة } [ العنكبوت : 20 ] .
والمجرور من قوله : { في الملة الآخرةِ } يجوز أن يكون ظرفاً مستقراً في موضع الحال من اسم الإِشارة بياناً للمقصود من الإِشارة متعلقاً بفعل { سَمِعْنَا } . والمعنى : ما سمعنا بهذا قبل اليوم فلا نعتدّ به . ويجوز على هذا التقدير أن يكون المراد ب { الملَّةِ الآخرة } دين النصارى ، وهو عن ابن عباس وأصحابه وعليه فالمشركون استشهدوا على بطلان توحيد الإله بأن دين النصارى الذي ظهر قبل الإِسلام أثبتَ تعدد الآلهة ، ويكون نفي السماع كناية عن سماع ضده وهو تعدد الآلهة . ويجوز أن يريدوا ب { الملَّةِ الآخِرة } الملّة التي هُم عليها ويكون إشارة إلى قول ملأ قريش لأبي طالب في حين احْتضاره حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم « يا عَم قُلْ لا إله إلاّ الله كلمةً أُحاجُّ لك بها عند الله . فقالوا له جميعاً : أترغب عن ملة عبد المطلب » فقولهم : { في الملة الآخِرَةِ } كناية عن استمرار انتفاء هذا إلى الزمن الأخير فيعلم أن انتفاءه في ملتهم الأولى بالأحرى .
وجملة { إن هذا إلاَّ اختلاقٌ } مبينة لجملة { ما سمعنا بهذا } وهذا هو المتحصل من كلامهم المبدوء ب { امشوا واصبروا على ءَالهتِكُم } فهذه الجملة كالفذلكة لكلامهم .