في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ} (19)

15

ولن يستوي عند الله الإيمان والكفر ، والخير والشر ، والهدى والضلال ؛ كما لا يستوي العمى والبصر ، والظلمة والنور ، والظل والحرور ، والحياة والموت ، وهي مختلفة الطبائع من الأساس :

وما يستوي الأعمى والبصير . ولا الظلمات ولا النور . ولا الظل ولا الحرور . وما يستوي الأحياء ولا الأموات . .

وبين طبيعة الكفر وطبيعة كل من العمى والظلمة والحرور والموت صلة . كما أن هناك صلة بين طبيعة الإيمان وطبيعة كل من النور والبصر والظل والحياة . .

إن الإيمان نور ، نور في القلب ونور في الجوارح ، ونور في الحواس . نور يكشف حقائق الأشياء والقيم والأحداث وما بينها من ارتباطات ونسب وأبعاد . فالمؤمن ينظر بهذا النور ، نور الله ، فيرى تلك الحقائق ، ويتعامل معها ، ولا يخبط في طريقه ولا يلطش في خطواته !

والإيمان بصر ، يرى . رؤية حقيقية صادقة غير مهزوزة ولا مخلخلة . ويمضي بصاحبه في الطريق على نور وعلى ثقة وفي اطمئنان .

والإيمان ظل ظليل تستروحه النفس ويرتاح له القلب ، ظل من هاجرة الشك والقلق والحيرة في التيه المظلم بلا دليل !

والإيمان حياة . حياة في القلوب والمشاعر . حياة في القصد والاتجاه . كما أنه حركة بانية . مثمرة . قاصدة . لا خمود فيها ولا همود . ولا عبث فيها ولا ضياع .

والكفر عمى . عمى في طبيعة القلب . وعمى عن رؤية دلائل الحق . وعمى عن رؤية حقيقة الوجود . وحقيقة الإرتباطات فيه . وحقيقة القيم والأشخاص والأحداث والأشياء .

والكفر ظلمة أو ظلمات . فعندما يبعد الناس عن نور الإيمان يقعون في ظلمات من شتى الأنواع والأشكال . ظلمات تعز فيها الرؤية الصحيحة لشيء من الأشياء .

والكفر هاجرة . حرور . تلفح القلب فيه لوافح الحيرة والقلق وعدم الاستقرار على هدف ، وعدم الاطمئنان إلى نشأة أو مصير . ثم تنتهي إلى حر جهنم ولفحة العذاب هناك !

والكفر موت . موت في الضمير . وانقطاع عن مصدر الحياة الأصيل . وانفصال عن الطريق الواصل .

وعجز عن الانفعال والاستجابة الآخذين من النبع الحقيقي ، المؤثرين في سير الحياة !

ولكل طبيعته ولكل جزاؤه ، ولن يستوي عند الله هذا وذاك .

وهنا يلتفت إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يعزيه ويسري عنه ، بتقرير حدود عمله وواجبه في دعوة الله . وترك ما تبقى بعد ذلك لصاحب الأمر يفعل به ما يشاء :

( إن الله يسمع من يشاء ، وما أنت بمسمع من في القبور . إن أنت إلا نذير . إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ، وإن من أمة إلا خلا فيها نذير . وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير . ثم أخذت الذين كفروا . فكيف كان نكير ? ) . .

إن الفوارق أصيلة في طبيعة الكون وفي طبيعة النفس . واختلاف طباع الناس واختلاف استقبالهم لدعوة الله أصيل أصالة الفوارق الكونية في البصر والعمى ، والظل والحرور ، والظلمات والنور ، والحياة والموت . ووراء ذلك كله تقدير الله وحكمته . وقدرته على ما يشاء .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ} (19)

قوله تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير } يعني : الجاهل والعالم . وقيل : الأعمى عن الهدى والبصير بالهدى ، أي : المؤمن والمشرك .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ} (19)

ولما كان التقدير : فما يستوي في الطبع والعقل المتدسي الذي هو أعمى بعصيانه في الظلمات ولا المتزكي الذي هو بطاعاته بصير في النور وإن استويا في الإنسانية ، عطف عليه ما يصلح أمثلة للمتدسي والمتزكي وما يكون به التدسية والتزكية ، دلالة على تمام قدرته الذي السياق له من أول السورة ، وتقريراً لأن الخشية والقسوة بيده إبطالاً لقول من يسند الأمور إلى الطبائع قوله : { وما يستوي } أي في حالة من الأحوال . ولما كان المقام لوعظ المشركين ، وكان المتدسي قبل المتزكي على ما قرر قبله ، ناسب أن ينظم على هذا الترتيب قوله مثالاً للكافر والمؤمن والجاهل والعالم ، وقدم مثال الجاهل لأن الأصل عن الإرسال الجهل : { الأعمى والبصير * } أي لا الصنفان ولا أفرادهما ولا أفراد صنف منهما ، وأغنى عن إعادة النافي ظهور المفاوتة بين أفراد كل صنف من الصنفين ، فالمعنى أن الناس غير مستوين في العمى والبصر بل بعضهم أعمى وبعضهم بصير ، لأن افتعل هنا لمعنى تفاعل ، ولعله عبر به دلالة على النفي ولو وقع اجتهاد في أن لا يقع ، أو دلالة على أن المنفي إنما هو التساوي من كل جهة ، لا في أصل المعنى ولو كان ذلك مستنداً إلى الطبع لكانوا على منهاج واحد بل وأفراد كل متفاوتون فتجد بعض العمى يمشي بلا قائد في الأزقة المشكلة ، وآخر لا يقدر على المشي في بيته إلا بقائد ، وآخر يدرك من الكتاب إذا جسه كم مسطرته من سطر ، وهل خطه حسن أو لا ، وآخر يدرك الدرهم الزيف من غيره ، ويميز ضرب كل بلد من غيره ، وربما نازعه أحد مغالطة فلا يقبل التشكيك ، وآخر في غاية البعد عن ذلك ، وأما البصراء فالأمر فيهم واضح في المفاوتة في أبصارهم وبصائرهم ، وكل ذلك دليل واضح على أن الفاعل قادر مختار يزيد في الخلق ما يشاء ، وإلا لتساوت الأفراد فكانوا على منهاج واحد .