في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ وَإِن تَدۡعُ مُثۡقَلَةٌ إِلَىٰ حِمۡلِهَا لَا يُحۡمَلۡ مِنۡهُ شَيۡءٞ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰٓۗ إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفۡسِهِۦۚ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

15

ولمسة أخرى بحقيقة أخرى . حقيقة فردية التبعة ، والجزاء الفردي الذي لا يغني فيه احد عن أحد شيئاً . فما بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] من حاجة الى هدايتهم يحققها لنفسه ، فهو محاسب على عمله وحده ، كما أن كلاً منهم محاسب على ما كسبت يداه ، يحمل حمله وحده ، لا يعينه أحد عليه . ومن يتطهر فإنما يتطهر لنفسه ، وهو الكاسب وحده لا سواه ؛ والأمر كله صائر إلى الله :

( ولا تزر وازرة وزر أخرى . وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ) . . .

( ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ، وإلى الله المصير ) . .

وحقيقة فردية التبعة والجزاء ذات أثر حاسم في الشعور الأخلاقي ، وفي السلوك العملي سواء . فشعور كل فرد بأنه مجزيُّ بعمله ، لا يؤاخذ بكسب غيره ، ولا يتخلص هو من كسبه ، عامل قوي في يقظته لمحاسبة نفسه قبل ان تحاسب ! مع التخلي عن كل أمل خادع في أن ينفعه أحد بشيء ، أو أن يحمل عنه أحد شيئاً . كما أنه - في الوقت ذاته - عامل مطمئن ، فلا يقلق الفرد خيفة أن يؤخذ بجريرة الجماعة ، فيطيش وييئس من جدوى عمله الفردي الطيب . ما دام قد أدى واجبه في النصح للجماعة ومحاولة ردها عن الضلال بما يملك من وسيلة .

إن الله - سبحانه - لا يحاسب الناس جملة بالقائمة ! إنما يحاسبهم فرداً فرداً ؛ كل على عمله ، وفي حدود واجبه . ومن واجب الفرد أن ينصح وأن يحاول الإصلاح غاية جهده . فإذا قام بقسطه هذا فلا عليه من السوء في الجماعة التي يعيش فيها ، فإنما هو محاسب على إحسانه . كذلك لن ينفعه صلاح الجماعة إذا كان هو بذاته غير صالح . فالله لا يحاسب عباده بالقائمة كما أسلفنا !

والتعبير القرآني يصور هذه الحقيقة على طريقة التصوير في القرآن ، فتكون أعمق وأشد أثراً . يصور كل نفس حاملة حملها . فلا تحمل نفس حمل آخرى وحين تثقل نفس بما تحمل ثم تدعو أقرب الأقرباء ليحمل عنها شيئاً ، فلن تجد من يلبي دعاءها ويرفع عنها شيئاً مما يثقلها !

إنه مشهد القافلة كل من فيها يحمل أثقاله ويمضي في طريقه ، حتى يقف أمام الميزان والوزّان ! وهي في وقفتها يبدو على من فيها الجهد والإعياء ، واهتمام كل بحمله وثقله ، وانشغاله عن البعداء والأقرباء !

وعلى مشهد القافلة المجهدة المثقلة ، يلتفت إلى رسول الله - [ صلى الله عليه وسلم ] :

( إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب واقاموا الصلاة ) . .

فهؤلاء هم الذين يفلح فيهم الإنذار . هؤلاء الذين يخشون ربهم ولم يشاهدوه . ويقيمون الصلاة ليتصلوا بربهم ويعبدوه . هؤلاء هم الذين ينتفعون بك ، ويستجيبون لك . فلا عليك ممن لا يخشى الله ولا يقيم الصلاة .

ومن تزكى فأنما يتزكى لنفسه . .

لا لك . ولا لغيرك . إنما هو يتطهر لينتفع بطهره . والتطهر معنى لطيف شفاف . يشمل القلب وخوالجه ومشاعره ، ويشمل السلوك واتجاهاته وآثاره . وهو معنى موح رفاف .

( وإلى الله المصير ) . .

وهو المحاسب ، والمجازي ، فلا يذهب عمل صالح ، ولا يفلت عمل سيىء . ولا يوكل الحكم والجزاء إلى غيره ممن يميلون أو ينسون أو يهملون . .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ وَإِن تَدۡعُ مُثۡقَلَةٌ إِلَىٰ حِمۡلِهَا لَا يُحۡمَلۡ مِنۡهُ شَيۡءٞ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰٓۗ إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفۡسِهِۦۚ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

قوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة } أي : نفس مثقلة بذنوبها غيرها ، { إلى حملها } أي : حمل ما عليها من الذنوب ، { لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى } أي : ولو كان المدعو ذا قرابة له ابنه أو أباه أو أمه أو أخاه . قال ابن عباس : يلقى الأب والأم ابنه فيقول : يا بني احمل عني بعض ذنوبي ، فيقول : لا أستطيع حسبي ما علي . { إنما تنذر الذين يخشون } يخافون ، { ربهم بالغيب } ولم يروه . وقال الأخفش : تأويله أي : إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم بالغيب ، { وأقاموا الصلاة ومن تزكى } أصلح وعمل خيراً ، { فإنما يتزكى لنفسه } لها ثوابه . { وإلى الله المصير* }

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ وَإِن تَدۡعُ مُثۡقَلَةٌ إِلَىٰ حِمۡلِهَا لَا يُحۡمَلۡ مِنۡهُ شَيۡءٞ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰٓۗ إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفۡسِهِۦۚ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

ولما أنهى سبحانه بيان الحق بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة بالتهديد بالأخذ ، وكان الأخذ على وجه التهديد عقاباً ، وكان العقاب لا يكون حكمه إلا عند الذنب ، قال دالاً على أنه لا ينفك أحد عما يستحق به العقاب : { ولا } أي يذهبكم عقوبة لكم بأوزاركم وقدرة عليكم والحال أنه لا { تزر } أي تحمل يوم القيامة أو عند الإذهاب ، ولما لم تكن نفس متأهلة للحمل تخلو من وزر تحمله ، والمعصوم من عصم الله ، قال : { وازرة } دون نفس ، أي لا تحمل حاملة من جهة الإثم { وزر } أي حمل وثقل { أخرى } لتعذب به ، بل كل واحد منكم له مما كسبت يداه ما ثقوم به عليه الحجة في الأخذ مباشرة وتسبباً مع تفاوتكم في الوزر ، ولا يحمل أحد إلا ما اقترفه هو ، لا تؤخذ نفس بذنب أخرى الذي يخصها كما تفعل جبابرة الدنيا .

ولما أثبت أنه لا يؤخذ أحد إلا بوزر ، ونفى أن يحمل أحد وزر غيره ، وكان ربما أوهم أن ذلك خاص ببعض الأحوال أو الأشخاص ، وكان عظم الوزر يوجب عظم الأخذ ، نفى ذلك الإيهام ودل على القدرة على المفاوتة بينهم في الأجر وإن كان أخذهم في آن واحد بقوله : { وإن تدع } أي نفس { مثقلة } أي بالذنوب سواء كانت كفراً أو غيره ، أحداً { إلى حملها } أي الخاص بها من الذنوب التي ليست على غيرها بمباشرة ولا تسبب ليخفف عنها فيخفف عنها العذاب بسبب خفته { لا يحمل } أي من حامل ما { منه شيء } أي لا طواعية ولا كرهاً . بل لكل امرئ شأن يغنيه أصلاً وتسبباً { ولو كان } ذلك الداعي أو المدعو للحمل { ذا قربى } لمن دعاه ، وحاصل الأولى أنه لا يهلك أحد بذنب غيره بل بذنب نفسه ، والثانية أنه لا يحط عن أحد ذنبه ليسلم .

ولما كان هذا أمراً - مع كونه جلياً - خالعاً للقلوب ، فكان بحيث يشتد تعجب السامع ممن يسمعه ولا يخشى ، فقال مزيلاً لهذا العجب على سبيل النتيجة : { إنما تنذر } أي إنذاراً يفيد الرجوع عن الغيّ ، فلاختصاصهم بالنفع كانوا كأنهم مختصون بالإنذار ، وهو كما قال القشيري : الإعلام بموضع المخافة . { الذين يخشون } أي يوقعون هذا الفعل في الحال ويواظبون عليه في الاستقبال . ولما كان أعقل الناس من خاف المحسن لان أقل عقابة قطع إحسانه قال : { ربهم } .

ولما كان أوفى الناس عقلاً وأعلاهم همة وأكرمهم عنصراً من كانت غيبته مثل حضوره ، وكان لا يحتاج - مع قول الداعي وما يظهر له من سمته وحسن قوله وفعله - إلى آية يظهرها ولا خارقة يبرزها ، وإنما إيمانه تصديقاً للداعي في إخباره بالأمر المغيب من غير كشف غطاء قال : { بالغيب } أي حال كونهم غائبين عما دعوا إليه وخوفوا به ، أو حال كونه غائباً عنهم أو غائبين عمن يمكن مراءاته ، فهم مخلصون في خشيتهم سواء بحيث لا يطلع عليهم إلا الله ، ولا نعلم أحداً وازى خديجة والصديق رضي الله عنهما في ذلك .

ولما كانت الصلاة جامعة لخضوع الظاهر والباطن ، فكانت أشرف العبادات ، وكانت إقامتها بمعنى حفظ جميع حدودها في كل حال أدل الطاعات على الإخلاص ، قال معبراً بالماضي لأن مواقيت الصلاة مضبوطة : { وأقاموا } أي دليلاً على خشيتهم { الصلاة } في أوقاتها الخمسة وما يتبع ذلك من السنن .

ولما كان التقدير : فمن كان على غير ذلك تدسى ، ومن كان على هذا فقد تزكى ، ومن تدسى فإنما يتدسى على نفسه ، عطف عليه قوله ، مشيراً بأداة التفعل إلى أن النفس أميل شيء إلى الدنس ، فلا تنقاد إلى أحسن تقويم إلا باجتهاد عظيم . { ومن تزكّى } أي تطهر وتكثر بهذه المحاسن . ولما كان الإنسان ليفيده بالأسباب القريبة قد يغفل عن أن هذا نفع له وخاص به أكده فقال : { فإنما يتزكّى لنفسه } فإنه لا يضر ولا ينفع في الحقيقة غيرها { وإلى الله } الذي يكشف عن جميع صفاته أتم كشف تحتمله العقول يوم البعث لا إلى غيره { المصير * } كما كان منه المبدأ فيجازي كلاًّ على فعله فينصف بينك وبين من خشي ربه بإنذارك ومن أعرض عن ذلك .