في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مِن نُّطۡفَةٍ إِذَا تُمۡنَىٰ} (46)

نطفة تمنى . . تراق . . إفراز من إفرازات هذا الجسد الإنساني الكثيرة كالعرق والدمع والمخاط ! فإذا هي بعد فترة مقدورة في تدبير الله . . إذا هي ماذا ? إذا هي إنسان ! وإذا هذا الإنسان ذكر وأنثى ! كيف ? كيف تمت هذه العجيبة التي لم تكن - لولا وقوعها - تخطر على الخيال ? وأين كان هذا الإنسان المركب الشديد التركيب ، المعقد الشديد التعقيد ? أين كان كامنا في النقطة المراقة من تلك النطفة . بل في واحد من ملايين من أجزائها الكثيرة ? أين كان كامنا بعظمه ولحمه وجلده ، وعروقه وشعره وأظافره . وسماته وشياته وملامحه . وخلائقه وطباعه واستعداداته ? ! أين كان في هذه الخلية الميكروسكوبية السابحة هي وملايين من أمثالها في النقطة الواحدة من تلك النطفة التي تمنى ? ! وأين على وجه التخصيص كانت خصائص الذكر وخصائص الأنثى في تلك الخلية . تلك التي انبثقت وأعلنت عن نفسها في الجنين في نهاية المطاف ? !

وأي قلب بشري يقف أمام هذه الحقيقة الهائلة العجيبة . ثم يتمالك أو يتماسك . فضلا على أن يجحد ويتبجح ، ويقول : إنها وقعت هكذا والسلام ! وسارت في طريقها هكذا والسلام ! واهتدت إلى خطها المرسوم هكذا والسلام ! أو يتعالم فيقول : إنها سارت هذه السيرة بحكم ما ركب فيها من استعداد لإعادة نوعها ، شأنها شأن سائر الأحياء المزودة بهذا الاستعداد ! فهذا التفسير يحتاج بدوره إلى تفسير . فمن ذا أودعها هذا الاستعداد ? من ذا أودعها الرغبة الكامنة في حفظ نوعها بإعادته مرة أخرى ? ومن ذا أودعها القدرة على إعادته وهي ضعيفة ضئيلة ? ومن ذا رسم لها الطريق لتسير فيه على هدى ، وتحقق هذه الرغبة الكامنة ? ومن ذا أودع فيها خصائص نوعها لتعيدها ? وما رغبتها هي وما مصلحتها في إعادة نوعها بهذه الخصائص ? لولا أن هنالك إرادة مدبرة من ورائها تريد أمرا ، وتقدر عليه ، وترسم له الطريق ? !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مِن نُّطۡفَةٍ إِذَا تُمۡنَىٰ} (46)

{ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } ، كقوله : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاة } [ الملك : 2 ] ، { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى . مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى } ، كقوله : { أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى . أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى . ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى . فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى . أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } [ القيامة : 36 - 40 ] . {[27716]} .


[27716]:- (1) في م: "تمنى".

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مِن نُّطۡفَةٍ إِذَا تُمۡنَىٰ} (46)

{ وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى* من نطفة إذا تمنى } تدفق في الرحم أو تخلق ، أو يقدر منها الولد من منى إذا قدر .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مِن نُّطۡفَةٍ إِذَا تُمۡنَىٰ} (46)

والنطفة : فُعلة مشتقة من : نطفَ الماءُ ، إذا قطر ، فالنطفة ماء قليل وسمي ما منه النسل نطفة بمعنى منطوف ، أي مصبوب فماء الرجل مصبوب ، وماء المرأة أيضاً مصبوب فإن ماء المرأة يخرج مع بويضة دقيقة تتسرب مع دم الحيض وتستقر في كيس دقيق فإذا باشر الذكر الأنثى انحدرت تلك البيضة من الأنثى واختلطت مع ماء الذكر في قرارة الرحم .

و { مِن } في قوله : { من نطفة } ابتدائية فإن خَلق الإِنسان آتٍ وناشىءٌ بواسطة النطفة ، فإذا تكونت النطفة وأُمنيت ابتدأ خلق الإِنسان .

و { تمنى } تُدْفق وفسروه بمعنى تقذف أيضاً .

وقيل إن { تمنى } بمعنى تُراق ، وجعلوا تسمية الوادي الذي بقرب مكة منى لأنه تراق به دماء البُدْن من الهدايا . ولم يذكر أهل اللغة في معاني مني أو أمنى أن منها الإِراقة .

وهذا من مشكلات اللغة .

ثم إن { تمنى } يحتمل أنه مضارع أَمنى بهمزة التعدية وسقطت في المضارع فَوَزْنُهُ تُأَفْعَل ، ويحتمل أنه مضارع مَنى مثل رَمَى فوزنه : تُفْعَل .

وبني فعل { تمنى } إلى المجهول لأن النطفة تدفعها قوة طبيعية في الجسم خفية فكان فاعل الإِمناء مجهولاً لعدم ظهوره .

وعن الأخفش { تمنى } تقدّر ، يقال : منى الماني ، أي قَدَّر المقدر . والمعنى : إذا قُدر لها ، أي قدر لها أن تكون مخلَّقة كقوله تعالى : { مخلقة وغير مخلقة } [ الحج : 5 ] .

والتقييد ب { إذا تمنى } لما في اسم الزمان من الإِيذان بسرعة الخَلق عند دفق النطفة في رحم المرأة فإنه عند التقاء النطفتين يبتدىء تخلق النسل فهذا إشارة خفية إلى أن البويضة التي هي نطفة المرأة حاصلة في الرحم فإذا أُمنيت عليها نطفة الذكر أخذت في التخلق إذا لم يعقها عائق .

ثم لما في فعل { تمنى } من الإِشارة إلى أن النطفة تقطر وتصب على شيء آخر لأن الصب يقتضي مصبوباً عليه فيشير إلى أن التخلق إنما يحصل من انصباب النطفة على أخرى ، فعند اختلاط الماءين يحصل تخلق النسل فهذا سر التقييد بقوله : { إذا تمنى } .

وفي الجمع بين الذكر والأنثى محسِّن الطباق لما بين الذكر والأنثى من شبه التضاد .

ولم يؤت في هذه الجملة بضمير الفصل كما في اللتين قبلها لعدم الداعي إلى القصر إذ لا ينازع أحد في أن الله خالق الخلق وموقع جملة { وأنه خلق الزوجين } إلى آخرها كموقع جملة { وأن سعيه سوف يرى } [ النجم : 40 ] .