السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{مِن نُّطۡفَةٍ إِذَا تُمۡنَىٰ} (46)

وقوله تعالى : { من نطفة إذا تمنى } أي : تصب يشمل سائر الحيوانات لا أن ذلك مختص بآدم وحوّاء عليهما السلام ، لأنهما ما خلقا من نطفة ، وهذا أيضاً تنبيه على كمال القدرة لأنّ النطفة جسم متناسب الأجزاء ويخلق الله تعالى منها أعضاء مختلفة وطباعاً متباينة ، وخلق الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون ولهذا لم يقدر أحد على أن يدعي خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله } [ الزخرف : 87 ] وقال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ الله } [ لقمان : 25 ] .

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : { وأنه خلق } ولم يقل وأنه هو خلق كما قال تعالى : { وأنه هو أضحك وأبكى } أجيب بأن الضحك والبكاء ربما يتوهم أنهما بفعل الإنسان ، والإماتة والإحياء وإن كان ذلك التوهم أبعد فيهما لكن ربما يقول به جاهل كما قال من حاج إبراهيم عليه السلام أنا أحيي وأميت فأكد ذلك بالفصل ، وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة فلا يتوهم أحد أنه بخلق أحد من الناس فلم يؤكد بالفصل ألا ترى إلى قوله تعالى : { وأنه هو أغنى وأقنى } [ النجم : 48 ] حيث كان الإغناء عندهم غير مستند إلى الله تعالى ، وكان في معتقدهم أن ذلك بفعلهم كما قال قارون : { إنما أوتيته على علم عندي } [ القصص : 78 ] ولذلك قال : { هو رب الشعرى } [ النجم : 49 ] فأكد في مواضع استبعادهم إلى الإسناد ولم يؤكد في غيره .