ولن يستوي عند الله الإيمان والكفر ، والخير والشر ، والهدى والضلال ؛ كما لا يستوي العمى والبصر ، والظلمة والنور ، والظل والحرور ، والحياة والموت ، وهي مختلفة الطبائع من الأساس :
وما يستوي الأعمى والبصير . ولا الظلمات ولا النور . ولا الظل ولا الحرور . وما يستوي الأحياء ولا الأموات . .
وبين طبيعة الكفر وطبيعة كل من العمى والظلمة والحرور والموت صلة . كما أن هناك صلة بين طبيعة الإيمان وطبيعة كل من النور والبصر والظل والحياة . .
إن الإيمان نور ، نور في القلب ونور في الجوارح ، ونور في الحواس . نور يكشف حقائق الأشياء والقيم والأحداث وما بينها من ارتباطات ونسب وأبعاد . فالمؤمن ينظر بهذا النور ، نور الله ، فيرى تلك الحقائق ، ويتعامل معها ، ولا يخبط في طريقه ولا يلطش في خطواته !
والإيمان بصر ، يرى . رؤية حقيقية صادقة غير مهزوزة ولا مخلخلة . ويمضي بصاحبه في الطريق على نور وعلى ثقة وفي اطمئنان .
والإيمان ظل ظليل تستروحه النفس ويرتاح له القلب ، ظل من هاجرة الشك والقلق والحيرة في التيه المظلم بلا دليل !
والإيمان حياة . حياة في القلوب والمشاعر . حياة في القصد والاتجاه . كما أنه حركة بانية . مثمرة . قاصدة . لا خمود فيها ولا همود . ولا عبث فيها ولا ضياع .
والكفر عمى . عمى في طبيعة القلب . وعمى عن رؤية دلائل الحق . وعمى عن رؤية حقيقة الوجود . وحقيقة الإرتباطات فيه . وحقيقة القيم والأشخاص والأحداث والأشياء .
والكفر ظلمة أو ظلمات . فعندما يبعد الناس عن نور الإيمان يقعون في ظلمات من شتى الأنواع والأشكال . ظلمات تعز فيها الرؤية الصحيحة لشيء من الأشياء .
والكفر هاجرة . حرور . تلفح القلب فيه لوافح الحيرة والقلق وعدم الاستقرار على هدف ، وعدم الاطمئنان إلى نشأة أو مصير . ثم تنتهي إلى حر جهنم ولفحة العذاب هناك !
والكفر موت . موت في الضمير . وانقطاع عن مصدر الحياة الأصيل . وانفصال عن الطريق الواصل .
وعجز عن الانفعال والاستجابة الآخذين من النبع الحقيقي ، المؤثرين في سير الحياة !
ولكل طبيعته ولكل جزاؤه ، ولن يستوي عند الله هذا وذاك .
وهنا يلتفت إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يعزيه ويسري عنه ، بتقرير حدود عمله وواجبه في دعوة الله . وترك ما تبقى بعد ذلك لصاحب الأمر يفعل به ما يشاء :
( إن الله يسمع من يشاء ، وما أنت بمسمع من في القبور . إن أنت إلا نذير . إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ، وإن من أمة إلا خلا فيها نذير . وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير . ثم أخذت الذين كفروا . فكيف كان نكير ? ) . .
إن الفوارق أصيلة في طبيعة الكون وفي طبيعة النفس . واختلاف طباع الناس واختلاف استقبالهم لدعوة الله أصيل أصالة الفوارق الكونية في البصر والعمى ، والظل والحرور ، والظلمات والنور ، والحياة والموت . ووراء ذلك كله تقدير الله وحكمته . وقدرته على ما يشاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا} تستوي {الظلمات ولا النور} يعني بالظلمات الشرك، والنور يعني الإيمان.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 19]
يقول تعالى ذكره:"وَما يَسْتَوِي الأعْمَى" عن دين الله الذي ابتعث به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم "والبَصِيرُ "الذي قد أبصر فيه رشده، فاتبع محمدا وصدّقه، وقبل عن الله ما ابتعثه به.
"وَلا الظّلُماتُ" يقول: وما تستوي ظلمات الكفر، ونور الإيمان.
"وَلا الظّلّ" قيل: ولا الجنة، "وَلا الحَرُورُ" قيل: النار، كأن معناه عندهم: وما تستوي الجنة والنار. والحَرُور بمنزلة السّموم، وهي الرياح الحارّة...
وقوله: "وَما يَسْتَوِي الأحْياءُ وَلا الأمْوَاتُ" يقول: وما يستوي الأحياء القلوب بالإيمان بالله ورسوله، ومعرفة تنزيل الله، والأموات القلوب لغلبة الكفر عليها، حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه، ولا تعرف الهدى من الضلال. وكلّ هذه أمثال ضربها الله للمؤمن والإيمان، والكافر والكفر...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"ولا الظلمات ولا النور" يعني وكذلك لا يستوي المؤمن والكافر والمطيع والعاصي فشبه الايمان بالنور والكفر بالظلمات.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والظلمات والنور، والظل والحرور: تمثيل للحق والباطل وما يؤديان إليه من الثواب والعقاب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا من أغرب الأمور وإن غفل عنه لكثرة إلفه، نبه على غرابته ومزيد ظهور القدرة فيه بتكرير النافي في أشباهه وعلى أن الصبر لا ينفذ إلا في الظلمة، تنبيهاً على أن المعاصي تظلم قلب المؤمن وإن كان بصيراً، وقدم الظلمة لأنها أشد إظهاراً لتفاوت البصر مع المناسبة للسياق على ما قرر، فقال في عطف الزوج على الزوج وعطف الفرد على الفرد جامعاً تنبيهاً على أن طرق الضلال يتعذر حصرها: {ولا الظلمات} التي هي مثال للأباطيل؛ وأكد بتكرير النافي كالذي قبله لأن المفاوتة بين أفراد الظلمة وأفراد النور خفية، فقال منبهاً على أن طريق الحق واحدة.
{ولا النور} الذي هو مثال للحق، فما أبدعهما على هذا التضاد إلا الله تعالى الفاعل المختار، وفاوت بين أفراد النور وأفراد الظلمة، فما يشبه نور الشمس نور القمر، ولا شيء منهما نور غيرهما من النجوم ولا شيء من ذلك نور السراج -إلى غير ذلك من الأنوار، وإذا اعتبرت أفراد الظلمات وجدتها كذلك، فإن الظلمات إنما هي ظلال، وبعض الظلال أكثف من بعض.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
من خصائص الظلمة إخفاء الأشياء، والكافر خفيت عنه الحقائق الاعتقادية، وكلما بينها له القرآن لم ينتقل إلى أجلى، كما لو وصفت الطريق للسائر في الظلام.
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 19]
هذه حقائق يقررها الحق سبحانه، فالمتناقضان لا يستويان، لأن الأعمى لا يعرف مواقع الأشياء من حركته، والبصير يعرف مواقع الأشياء من حركته، البصير يرى مواقع الأشياء ويتفادى الأخطار، أما الأعمى فلا بُدَّ له من مرافق يتطوع بصداقة عينه السليمة للعين الغائبة، لذلك نقول: إنْ أعطى الأعمى للعمى حقه صار مبصراً، كيف؟ لأنه لا يتكبر أن يستعين بالمبصر، فحين ينادي على مَنْ يأخذ بيده تتسابق إليه كل العيون من حوله لتساعده، أما إنْ تعالى فسرعان ما (يندب) على وجهه.
والعمى والبصر حِسِّيات توضح المعنوي، فالمراد لا يستوي الجاهل والعالم؛ لأن حركة الحياة تنقسم إلى حركة مادية: تأتي وتذهب، تزرع وتقلع.. إلخ وحركة قيمية معنوية، وهي الروحانيات والأخلاقيات العالية، مثل معاني: الإيمان، الصدق، الوفاء، العدل، الرحمة.. إلخ.
وإذا كانت الحركة المادية الحسية تحتاج إلى نور حسيٍّ يهديك حتى لا تصطدم بما هو أقوى منك فيحطمك، أو بما هو أضعف منك فتحطمه، فكذلك الحركة القيمية المعنوية الروحية تحتاج إلى نور معنوي يهدي خُطَاك كي لا تضلّ، هذا النور المعنوي هو المنهج الذي قال الله فيه:
{قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15-16].
فالشمس هي النور الحسي، والقرآن هو النور المعنوي؛ لذلك قلنا في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضِ} [النور: 35] أي: مُنوِّرهما بالنُّوريْن.
الحق سبحانه سبق أنْ ذكر لنا التقابل بين الماءيْنِ العذب والمالح، فقال سبحانه: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} نعم، لا يستويان، لكن العلاقة بينهما علاقة تقابل كالليل والنهار، لا علاقة تضادٍّ كالأعمى والبصير، بدليل أن الله جمعهما معاً، فقال:
{وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12] فإن اختلف المتقابلان، فلكل منهما مهمة يؤديها، فهما متساندان لا متعاندان.
وبعد أن ذكر الحق سبحانه عدم استواء الأعمى والبصير يقول: {وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ} [فاطر: 20]، لأن النور هو مصدر الإبصار فالمبصر لا يرى شيئاً في الظلمة.
هذا في العمى والبصر الحسي، أما القيم والمعنويات فلها مقياس آخر؛ لذلك يقول تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، فقد يكون الرجل مبصراً وهو أعمى بصيرة. والأعمى في المعنويات هو الذي يجهل الحكم الذي يهديه إلى منطقة الحق في كل القيم، والبصير هو العالم بهذه الأحكام.
وحين تتأمل أسلوب هاتين الآيتين. تجد فيهما ملمحاً من ملامح الإعجاز في كلام الله، فالأولى {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ} [فاطر: 19] قرنت بين الاثنين باستخدام واو العطف، أما الأخرى {وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ} [فاطر: 20] فذكرت (لا) النافية الدالة على توكيد عدم الاستواء، فلم يَقُل الحق سبحانه كما في الأولى: ولا الظلمات والنور، لماذا؟
قالوا: لأن العمى والبصر صفتان قد تجتمعان في الشخص الواحد، فقد يكون أعمى اليوم ويبصر غداً، قد يكون جاهلاً ويتعلم، أو كافراً ويؤمن، فيطرأ عليه الوصفان؛ لذلك لم يؤكد معنى عدم الاستواء، أما الظلمات والنور فهما متقابلان لا يجتمعان.
كما تلحظ في دقة الأداء القرآني؛ لأن الحق سبحانه هو المتكلم، فقال: {وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ} [فاطر: 20] فالظلمات جمع والنور مفرد؛ لأن مذاهب الضلال شتى، فهذا يعبد النجوم، وهذا يعبد الأصنام، وهذا يعبد الملائكة.. الخ. أما النور فواحد، هو منهج الله المنزل في كتابه.
لذلك لما أراد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعلِّم أصحابه هذا الدرس خَطَّ لهم خطاً مستقيماً، ومن حوله خطوط متعرجة، ثم تلا:
{وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
ثم يقول سبحانه: {وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ} [فاطر: 21] وهما أيضاً متقابلان لا يجتمعان، كذلك {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ} [فاطر: 22] وتلحظ هنا أن الحق سبحانه أعاد ذكر الفعل المنفي {وَمَا يَسْتَوِي} [فاطر: 22] لتأكيد عدم الاستواء بين الحي والميت.
وكذلك ذكر (لا) النافية الدالة على التوكيد؛ لأن كلمة الأحياء تعني المؤمنين الإيمانَ الحق، الذين يستحقون حياة أبدية باقية تتصل بحياتهم الدنيوية الفانية، أما الأموات فهم الكفار الذين تأبَّوْا على منهج الله. أو: أن الأحياء هم الذين عرفوا أن الحياة الحقة هي العيش بمنهج ربهم الذي يؤدي بهم إلى الحياة الحقيقية الباقية التي قال الله عنها:
{وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
وهذه هي الحياة المرادة في قوله تعالى:
{يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] كيف وهو يخاطبهم وهم أحياء بالفعل؟ إذن: المعنى يُحييكم الحياة الحقيقية التي لا تنتهي بموت، ولا تُسلب منها نعمة.
ومن ذلك أيضاً قوله سبحانه: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا..} [الأنعام: 122].
ومن المعاني التى نفهمها من عدم استواء الأحياء والأموات أن الحيَّ خلقه الله وأمدَّه بأجهزة نفسية: عقلاً، وأعصاباً، وعضلات، وسمعاً وبصراً.. الخ وهذه الأعضاء لها قيمة، ولها مهمة، وعليه أنْ يستخدم هذه النعم استخداماً يجعلها وسائل لِنِعَم أخرى، ثم ليعلم أنه في رحلة حياته لا بُدَّ أنه سيموت، لكن ربه عز وجل أبهم له أجله ليكون ذلك عَيْن البيان، وليظل على ذِكْر له طوال الوقت وينتظره في كل لحظة، فعمرك محسوب بعدٍّ تنازلي، وسهم الموت أُطلِق في اتجاهك بالفعل، وعمرك بقدر وصوله إليك.
بعد أن تكلم الحق سبحانه عن الحال في التكليفات فقال: لا يستوي الأعمى الجاهل بأصول دينه والبصير العالم بها، ولا يستوي نور الإيمان والهداية مع ظلمات الضلال، يتكلم سبحانه عن المآل، فيقول: {وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ} [فاطر: 21] الظل كناية عن نعيم الجنة، وفي موضع آخر قال:
{ظِـلاًّ ظَلِيلاً} [النساء: 57]، والحَرُور كناية عن العذاب وشدة حَرِّه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لأنّ الظلام منشأ الضلال، الظلام سبب السكون والركود، الظلام مسبّب لكلّ أنواع المخاطر، أمّا النور والضياء فهو منشأ الحياة والمعيشة والحركة والرشد والنمو والتكامل، فلو زال النور لتوقّفت كلّ حركة وتلاشت جميع الطاقات في العالم، ولعمّ الموت العالم المادّي بأسره، وكذلك نور الإيمان في عالم المعنى، فهو سبب الرشد والتكامل والحياة والحركة...