جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{وَلَا ٱلظُّلُمَٰتُ وَلَا ٱلنُّورُ} (20)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَىَ وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظّلُمَاتُ وَلاَ النّورُ * وَلاَ الظّلّ وَلاَ الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَآءُ وَلاَ الأمْوَاتُ إِنّ اللّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مّن فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلاّ نَذِيرٌ } . يقول تعالى ذكره : وَما يَسْتَوِي الأعْمَى عن دين الله الذي ابتعث به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والبَصِيرُ الذي قد أبصر فيه رشده ، فاتبع محمدا وصدّقه ، وقبل عن الله ما ابتعثه به وَلا الظّلُماتُ يقول : وما تستوي ظلمات الكفر ، ونور الإيمان وَلا الظّلّ قيل : ولا الجنة وَلا الحَرُورُ قيل : النار ، كأن معناه عندهم : وما تستوي الجنة والنار والحَرُور بمنزلة السّموم ، وهي الرياح الحارّة . وذكر أبو عبيدة مَعْمَر بن المثنى ، عن رُؤْبة بن العَجّاج ، أنه كان يقول : الحَرور بالليل ، والسموم بالنهار . وأما أبو عبيدة فإنه قال : الحَرور في هذا الموضع والنهار مع الشمس . وأما الفراء فإنه كان يقول : الحَرُور يكون بالليل والنهار ، والسّموم لا يكون بالليل إنما يكون بالنهار .

والقول في ذلك عندي ، أن الحَرور يكون بالليل والنهار ، غير أنه في هذا الموضع بأن يكون كما قال أبو عبيدة : أشبه مع الشمس ، لأن الظلّ إنما يكون في يوم شمس ، فذلك يدلّ على أنه أريد بالحَرور : الذي يوجد في حال وجود الظلّ .

وقوله : وَما يَسْتَوِي الأحْياءُ وَلا الأمْوَاتُ يقول : وما يستوي الأحياء القلوب بالإيمان بالله ورسوله ، ومعرفة تنزيل الله ، والأموات القلوب لغلبة الكفر عليها ، حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه ، ولا تعرف الهدى من الضلال وكلّ هذه أمثال ضربها الله للمؤمن والإيمان ، والكافر والكفر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما يَسْتَوِي الأعْمَى والبَصِيرُ . . . الاَية ، قال : هو مَثَل ضربه الله لأهل الطاعة وأهل المعصية . يقول : وما يستوي الأعمى والظلمات والحرور ، ولا الأموات ، فهو مَثَل أهل المعصية . ولا يستوي البصير ولا النور ، ولا الظلّ والأحياء ، فهو مثل أهل الطاعة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما يَسْتَوِي الأعْمَى . . . الاَية خلقا ، فضل بعضه على بعض فأما المؤمن فعبد حيّ الأثر ، حيّ البصر ، حيّ النية ، حيّ العمل . وأما الكافر فعبد ميت ، ميت البصر ، ميت القلب ، ميت العمل .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما يَسْتَوِي الأعْمَى والبَصِيرُ وَلا الظّلُماتُ وَلا النّورُ وَلا الظّلّ وَلا الحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الأحْياءُ وَلا الأمْوَاتُ قال : هذا مثل ضربه الله فالمؤمن بصير في دين الله ، والكافر أعمى ، كما لا يستوي الظلّ ولا الحَرور ، ولا الأحياء ولا الأموات ، فكذلك لا يستوي هذا المؤمن الذي يبصر دينه ، ولا هذا الأعمى ، وقرأ : أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ قال : الهُدى الذي هداه الله به ونوّر له . هذا مثل ضربه الله لهذا المؤمن الذي يبصر دينه ، وهذا الكافر الأعمى ، فجعل المؤمن حيا ، وجعل الكافر ميتا ، ميت القلب أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأَحْيَيْناهُ قال : هديناه إلى الإسلام كمن مثله في الظلمات أعمى القلب ، وهو في الظلمات ، أهذا وهذا سواء ؟

واختلف أهل العربية في وجه دخول «لا » مع حرف العطف في قوله : وَلا الظّلُماتُ وَلا النّورُ وَلا الظّلّ وَلا الحَرُورُ فقال بعض نحويّي البصرة : قال : ولا الظلّ ولا الحَرور ، فيشبه أن تكون «لا » زائدة ، لأنك لو قلت : لا يستوي عمرو ولا زيد في هذا المعنى لم يجز إلاّ أن تكون «لا » زائدة وكان غيره يقول : إذا لم تدخل «لا » مع الواو ، فإنما لم تدخل اكتفاء بدخولها في أوّل الكلام ، فإذا أدخلت فإنه يراد بالكلام أن كلّ واحد منهما لا يساوي صاحبه ، فكان معنى الكلام إذا أعيدت «لا » مع الواو عند صاحب هذا القول : لا يساوي الأعمى البصير ولا يساوي البصير الأعمى ، فكلّ واحد منهما لا يساوي صاحبه .