الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَا ٱلظُّلُمَٰتُ وَلَا ٱلنُّورُ} (20)

قوله : { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } : استوى من الأفعال التي لا يُكْتَفَى فيها بواحدٍ لو قلت : " استوى زيدٌ " لم يَصِحَّ ، فمِنْ ثَمَّ لَزِمَ العطفُ على الفاعلِ أو تعدُّدُه .

و " لا " في قوله : " ولا الظلماتُ " إلى آخره مكررةٌ لتأكيدِ النفيِ . وقال ابنُ عطية : " دخولُ " لا " إنما هو على نيةِ التَّكْرارِ ، كأنه قال : ولا الظلماتُ والنورُ ، ولا النورُ والظلماتُ ، فاسْتُغْني بذِكْرِ الأوائل عن الثواني ، ودَلَّ مذكورُ الكلامِ على مَتْروكِه " . قال الشيخ : " وهذا غير مُحْتاجٍ إليه ؛ لأنه إذا نُفِي اسْتواؤُهما أولاً فأيُّ فائدةٍ في نَفْي اسْتوائِهما ثانياً " وهو كلامٌ حَسَنٌ إلاَّ أنَّ الشيخَ هنا قال : " فدخولُ " لا " في النفيِ لتأكيدِ معناه ، كقوله : { وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ } [ فصلت : 34 ] . قلت : وللناسِ في هذه الآيةِ قولان ، أحدهما : ما ذُكِر . الثاني : أنها غيرُ مؤكِّدة ؛ إذ يُراد بالحسنةِ الجنسُ ، وكذلك " السيئة " فكلُّ واحدٍ منهما متفاوتٌ في جنسِه ؛ لأنَّ الحسناتِ درجاتٌ متفاوتةٌ ، وكذلك السَّيئاتُ ، وسيأتي لك تحقيقُ هذا إنْ شاء اللَّهُ تعالى . فعلى هذا يمكنُ أَنْ يُقالَ بهذا هنا : وهو أنَّ المرادَ نَفْيُ استواءِ الظلماتِ ونَفْيُ استواءِ جنسِ النورِ ، إلاَّ أنَّ هذا غيرُ مُرادً هنا في الظاهر ، إذ المرادُ مقابَلَةُ هذه الأجناسِ بعضِها ببعضٍ لا مقابلةُ بعضِ أفرادِ كلِّ جنسٍ على حِدَتِه . ويُرَجِّح هذا الظاهرَ التصريحُ بهذا في قوله أولاً : { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } حيث لم يُكرِّرْها . وهذا من المواضعِ الحسنةِ المفيدة .

والحَرُوْرُ : شدةُ حَرِّ الشمس . وقال الزمخشري : " الحَرورُ السَّمُوم ، إلاَّ أنَّ السَّمومَ بالنهارِ ، والحَرورَ فيه وفي الليل " . قلت : وهذا مذهبُ الفراءِ وغيرِه . وقيل : السَّمومُ بالنهار ، والحَرورُ بالليل خاصةً ، نقله ابنُ عطية عَن رؤبةَ . وقال : " ليس بصحيحٍ ، بل الصحيحُ ما قاله الفراءُ " . وهذا عجيبٌ منه كيف يَرُدُّ على أصحاب اللسانِ بقولِ مَنْ يأخذُ عنهم ؟ وقرأ الكسائي في روايةِ زاذانَ عنه " وَمَا تَسْتَوِي الأَحْيَآءُ " بالتأنيث على معنى الجماعة .

وهذه الأشياءُ جيْءَ بها على سبيلِ الاستعارةِ والتمثيلِ ، فالأعمى والبصيرُ ، الكافرُ والمؤمنُ ، والظلماتُ والنورُ ، الكفرُ والإِيمان ، والظلُّ والحَرورُ ، الحقُّ والباطلُ ، والأحياء والأمواتُ ، لمَنْ دَخَل في الإِسلامِ لَمَّا ضَرَبَ الأعمى والبصيرَ مَثَلَيْن للكافرِ والمؤمنِ عَقَّبَه بما كلٌّ منها فيه ، فالكافرُ في ظلمةٍ ، والمؤمنُ في نورٍ ؛ لأنَّ البصيرَ وإن كان حديدَ النظر لا بُدَّ له مِنْ ضوءٍ يُبْصِرُ به ، وقَدَّم الأعمى لأنَّ البصيرَ فاصلةٌ فَحَسُنَ تأخيره ، ولمَّا تقدَّم الأعمى في الذكر ناسَبَ تقديمَ ما هو فيه ، فلذلك قُدِّمَتِ الظلمةُ على النور ، ولأنَّ النورَ فاصلةٌ ، ثم ذَكَر ما لكلٍّ منهما فللمؤمنِ الظلُّ وللكافرِ الحَرورُ ، وأخّر الحرورَ لأجلِ الفاصلةِ كما تقدَّم .

وقولي " لأجلِ الفاصلةِ " هنا وفي غيرِه من الأماكنِ أحسنُ مِنْ قولِ بَعْضِهم لأجلِ السَّجْع ؛ لأنَّ القرآن يُنَزَّه عن ذلِك . وقد منع الجمهورُ/ أَنْ يُقال في القرآن سَجْعٌ ، وإنما كرَّر الفعلَ في قوله : { وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ } مبالغةً في ذلك ؛ لأنَّ المنافاةَ بين الحياةِ والموتِ أتمُّ من المنافاةِ المتقدمةِ ، وقدَّم الإِحياءَ لشرفِ الحياةِ ولم يُعِدْ " لا " تأكيداً في قولِه : " الأَعمى والبصير " وكرَّرها في غيره ؛ لأنَّ منافاةَ ما بعدَه أتمُّ ، فإن الشخصَ الواحدَ قد يكونُ بصيراً ثم يصيرُ أَعْمى ، فلا منافاةَ إلاَّ من حيث الوصفُ بخلافِ الظلِّ والحرورِ ، والظلماتِ والنور ، فإنها متنافيةٌ أبداً ، لا يَجْتمع اثنان منها في محلّ ، فالمنافاةُ بين الظلِّ والحرورِ وبين الظلمةِ والنورِ دائمةٌ .

فإنْ قيل : الحياةُ والموتُ بمنزلةِ العمى والبصرِ ، فإنَّ الجسمَ قد يكون مُتَّصفاً بالحياةِ ثم يتصفُ بالموت . فالجواب : أنَّ المنافاةَ بينهما أتمُّ من المنافاةِ بين الأعمى والبصيرِ ؛ لأنَّ الأعمى والبصيرَ يشتركان في إدراكات كثيرةٍ ، ولا كذلكَ الحيُّ والميت ، فالمنافاةُ بينهما أتمُّ ، وأفردَ الأعمى والبصيرَ لأنَّه قابلَ الجنسَ بالجنسِ ، إذ قد يُوْجد في أفراد العُمْيان ما يُساوي بعضَ أفرادِ البُصَراءِ كأعمى ذكي له بصيرةٌ يُساوي بصيراً بليداً ، فالتفاوتُ بين الجنسين مقطوعٌ به لا بين الأفراد .

وجَمَعَ الظلماتِ لأنها عبارةٌ عن الكفرِ والضلالِ ، وطرقُهما كثيرةٌ متشعبةٌ ، ووحَّد النورَ لأنه عبارةٌ عن التوحيدِ وهو واحدٌ ، فالتفاوتُ بين كلِّ فردٍ مِنْ أفرادِ الظلمة ، وبين هذا الفردِ الواحد . والمعنى : الظلماتُ كلُّها لا تجدُ فيها ما يساوي هذا الواحدَ كذا قيل . وعندي أنه ينبغي أَنْ يُقال : إن هذا الجمعَ لا يُساوي هذا الواحدَ فيُعْلَمُ انتفاءُ مساواةِ فردٍ منه لهذا الواحدِ بطريقِ الأَوْلى ، وإنما جَمَع الأحياءَ والأمواتَ لأنَّ التفاوتَ بينهما أكثرُ ؛ إذ ما من ميتٍ يُساوي في الإِدراك حيَّاً ، فذكَرَ أنَّ الأحياءَ لا يُساوون الأموات سواءً قابَلْتَ الجنسَ بالجنسِ ، أم الفردَ بالفرد .