في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعٗا} (20)

والآن وقد انتهى من تصوير الهول في مشاهد ذلك اليوم ، وفي صورة ذلك العذاب ؛ فإنه يتجه إلى تصوير حقيقة النفس البشرية في مواجهة الشر والخير ، في حالتي إيمانها وخلوها من الإيمان . ويقرر مصير المؤمنين كما قرر مصير المجرمين :

( إن الإنسان خلق هلوعا : إذا مسه الشر جزوعا ، وإذا مسه الخير منوعا . إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون . والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم . والذين يصدقون بيوم الدين . والذين هم من عذاب ربهم مشفقون . إن عذاب ربهم غير مأمون . والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم بشهاداتهم قائمون . والذين هم على صلاتهم يحافظون . أولئك في جنات مكرمون ) .

وصورة الإنسان - عند خواء قلبه من الإيمان - كما يرسمها القرآن صورة عجيبة في صدقها ودقتها وتعبيرها الكامل عن الملامح الأصيلة في هذا المخلوق ؛ والتي لا يعصمه منها ولا يرفعه عنها إلا العنصر الإيماني ، الذي يصله بمصدر يجد عنده الطمأنينة التي تمسك به من الجزع عند ملاقاة الشر ، ومن الشح عند امتلاك الخير .

( إن الإنسان خلق هلوعا : إذا مسه الشر جزوعا . وإذا مسه الخير منوعا ) . .

لكأنما كل كلمة لمسة من ريشة مبدعة تضع خطا في ملامح هذا الإنسان . حتى إذا اكتملت الآيات الثلاث القصار المعدودة الكلمات نطقت الصورة ونبضت بالحياة . وانتفض من خلالها الإنسان بسماته وملامحه الثابتة . هلوعا . . جزوعا عند مس الشر ، يتألم للذعته ، ويجزع لوقعه ، ويحسب أنه دائم لا كاشف له . ويظن اللحظة الحاضرة سرمدا مضروبا عليه ؛ ويحبس نفسه بأوهامه في قمقم من هذه اللحظة وما فيها من الشر الواقع به . فلا يتصور أن هناك فرجا ؛ ولا يتوقع من الله تغييرا . ومن ثم يأكله الجزع ، ويمزقه الهلع . ذلك أنه لا يأوي إلى ركن ركين يشد من عزمه ، ويعلق به رجاءه وأمله . . منوعا للخير إذا قدر عليه . يحسب أنه من كده وكسبه فيضن به على غيره ، ويحتجنه لشخصه ، ويصبح أسير ما ملك منه ، مستعبدا للحرص عليه ! ذلك أنه لا يدرك حقيقة الرزق ودوره هو فيه . ولا يتطلع إلى خير منه عند ربه وهو منقطع عنه خاوي القلب من الشعور به . . فهو هلوع في الحالتين . . هلوع من الشر . هلوع على الخير . . وهي صورة بائسة للإنسان ، حين يخلو قلبه من الإيمان .

ومن ثم يبدو الإيمان بالله مسألة ضخمة في حياة الإنسان . لا كلمة تقال باللسان ، ولا شعائر تعبدية تقام . إنه حالة نفس ومنهج حياة ، وتصور كامل للقيم والأحداث والأحوال . وحين يصبح القلب خاويا من هذا المقوم فإنه يتأرجح ويهتز وتتناوبه الرياح كالريشة ! ويبيت في قلق وخوف دائم ، سواء أصابه الشر فجزع ، أم أصابه الخير فمنع . فأما حين يعمره الإيمان فهو منه في طمأنينة وعافية ، لأنه متصل بمصدر الأحداث ومدبر الأحوال ؛ مطمئن إلى قدره شاعر برحمته ، مقدر لابتلائه ، متطلع دائما إلى فرجه من الضيق ، ويسره من العسر . متجه إليه بالخير ، عالم أنه ينفق مما رزقه ، وأنه مجزي على ما أنفق في سبيله ، معوض عنه في الدنيا والآخرة . . فالإيمان كسب في الدنيا يتحقق قبل جزاء الآخرة ، يتحقق بالراحة والطمأنينة والثبات والاستقرار طوال رحلة الحياة الدنيا .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعٗا} (20)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم نعته فقال: {إذا مسه الشر} يقول: إذا أصابه {جزوعا}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

إذا قلّ ماله وناله الفقر والعدم فهو جزوع من ذلك لا صبر له عليه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{إذا مسه الشر جزوعا} {وإذا مسه الخير منوعا} وهذا أيضا مثل الأول، لأن الذي حمله على المنع شدة حبه إياه، والذي حمله على الجزع ما مسه من الضر والشر، فجزعت نفسه لذلك، لأنها أنشئت نافرة الضر ومبغضة له. وقال الله عز وجل: {وكان الإنسان عجولا} [الإسراء: 11] وقال في موضع آخر: {وكان الإنسان قتورا} [الإسراء: 100] أي لا يسخو على إخراج ما في يديه. ففي هذه الآيات أنبأ أن الإنسان خلق على هذه الأحوال: قتورا عجولا هلوعا. فلما أنشئ على حب ما ينفعه وبغض ما يكرهه، ويتألم به، علم أنه خلق على هذه للمحنة. فمن تفكر في ما وعد الله تعالى من النعم لمن قام بوفاء ما أمره به حمله ذلك على التسارع في الخيرات وترك ما يحبه في الدنيا، يسأل الموعود في الآخرة، إذ هو في الأصل أنشئ محبا لما يتلذذ به. ومن تذكر ما أوعد من العذاب بما يعطي نفسه من الشهوات من معاصي الله تعالى وبما يمنع من حقوق الله تعالى الواجبة في ماله سهل عليه ترك الشهوات، وخف عليه بذل ما طلب منه لئلا يحل به ما ينغص عيشه من الآلام والمكاره. والأصل أن الإنسان، وإن كان مطبوعا على هذه الأخلاق الذميمة من البخل والإقتار والعجلة، وجبل عليها، فقد ملك رياضة نفسه، ويمكنه أن يستخرجها من تلك الطباع الذميمة إلى أضدادها من الأخلاق الحميدة والشمائل المرضية، فلزمه القيام بذلك. ألا ترى أنه يتهيأ له أن يقوم برياضة الدواب والسباع، فيخرجها بالرياضة عن طباعها التي أنشئت عليها من النفار عن الخلق والامتناع عن الانقياد، حتى تصير منقادة للخلق ذليلة لهم، فيتهيأ لهم الاستمتاع والتوصل إلى منافعها؟ فكذلك الإنسان إذا قام برياضة نفسه أمكنه أن يخرجها عن خلقتها، فتصير مطيعة له، فيخف عليها بذل ما يطلب منها، ويسهل عليها تحمل ما كان يشتد عليها. ثم الأصل أن المرء، وإن جبل على حب ما يتلذذ به وبغض ما يتألم، ويتوجع، فقد جبل أيضا على ترك ما هو فيه من اللذة للذة هي أعظم منها وعلى التصبر لاحتمال الأذى والمكروه ليتخلص مما هو أعظم من ذلك المكروه والألم. وإذا كان كذلك فهو إذا قابل نعيم الدنيا بنعيم الآخرة وأقرب اللذتين بأبعدهما، فرأى لذة الآخرة أعظم وأبقى، خف عليه ترق أقربهما لأبعدهما وأقلهما لأكثرهما، وإذا قابل مكروه الآخرة وعذابها بعذاب الآخرة، فرأى عذاب الآخرة أشد وأبقى، خف عليه تحمل المكاره في الدنيا، فهذا السبب الذي ذكرنا مما يتوصل به إلى رياضة النفس، والذي يدل على أن المرء قد يخف عليه تحمل الشدائد وترك اللذات الحاضرة لما يأمل من اللذات الآجلة أنك ترى المرء قد يهون عليه الضرب في الأرض وقطع الأسفار وتحمل المؤن وركوب الأهوال والفظائع والانقطاع عن اللذات، كالذي يخرج للتجارة من بلده إلى بلاد نائية لما يرجو من النفع والربح في ذلك، فيتحمل ما يمسه من المكاره والمؤن لما يطمع من نيل اللذات التي تركها. فعلى ذلك إذا تفكر في نعيم الآخرة، وتفكر في عقابها سهل عليه ترك اللذات الحاضرة وخف عليه تحمل المكاره في الدنيا. ووجه آخر أنه لما جبل على حب اللذات وبغض المكاره، أمر أن يجعل ما يحبه من العاجل آجلا، فيكون شغله أبدا في ما يوصله على نعيم الآجل، وأمر أن يجعل هربه عن الآلام الآجلة عاجلا فيجتهد في ما فيه التخلص والنجاة من تلك الآلام، والله أعلم.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

الجزع: ظهور الفزع بحال تنبئ عنه.

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

قال ابن كيسان: خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويهرب مما يكره، ثم تعبده بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 19]

وقوله تعالى: {إن الإنسان} عموم لاسم الجنس، لكن الإشارة هنا إلى الكفار، لأن الأمر فيهم وكيد كثير، والهلع جزع واضطراب يعتري الإنسان عند المخاوف وعند المطامع ونحوه قوله عليه السلام: «شر ما في الإنسان شح هالع وجبن خالع».

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{إذا مسه} أي أدنى مس {الشر} أي هذا الجنس وهو ما تطاير شرره من الضر {جزوعاً} أي عظيم الجزع، وهو ضد الصبر بحيث يكاد صاحبه ينقد نصفين ويتفتت.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

{جَزُوعاً} أي مبالغاً في الجزع مكثراً منه، والجزع -قال الراغب- أبلغ من الحزن، فإن الحزن عام، والجزع حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه، وأصله قطع الحبل من نصفه، يقال جزعه فانجزع ولتصور الانقطاع فيه قيل جزع الوادي لمنقطعه، والانقطاع اللون بتغيره قيل للخرز المتلون جزع، وعنه استعير قولهم لحم مجزع إذ كان ذا لونين، وقيل للبسرة إذا بلغ الارطاب نصفها مجزعة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 19]

والآن وقد انتهى من تصوير الهول في مشاهد ذلك اليوم، وفي صورة ذلك العذاب؛ فإنه يتجه إلى تصوير حقيقة النفس البشرية في مواجهة الشر والخير، في حالتي إيمانها وخلوها من الإيمان. ويقرر مصير المؤمنين كما قرر مصير المجرمين...

وصورة الإنسان -عند خواء قلبه من الإيمان- كما يرسمها القرآن صورة عجيبة في صدقها ودقتها وتعبيرها الكامل عن الملامح الأصيلة في هذا المخلوق؛ والتي لا يعصمه منها ولا يرفعه عنها إلا العنصر الإيماني، الذي يصله بمصدر يجد عنده الطمأنينة التي تمسك به من الجزع عند ملاقاة الشر، ومن الشح عند امتلاك الخير.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

يراد ب «الهلوع» كما يقول المفسّرون وأصحاب اللغة «الحريص»، وآخرون فسّروه بالجزع، وبناءً على التّفسير الأوّل فإنّه يشار إلى ثلاثة أُمور رذيلة يتصف بها هؤلاء وهي: الحرص، والجزع، والبخل، وللتّفسير الثّاني صفتان هما: الجزع، والبخل، لأنّ الثّانية والثّالثة هي تفسير لمعنى الهلوع. وهنا احتمال آخر وهو أنّ المعنيين يجتمعان في هذه الكلمة، لأنّ هاتين الصفتين متلازمتان مع بعضهما، فالناس الحريصون غالباً ما يكونون بخلاء، ويجزعون عند الشدائد، بالعكس أيضاً صحيح. وهنا يطرح هذا السؤال، وهو كيف أنّ اللّه خلق الإنسان للسعادة والكمال وجعل فيه الشرّ والسوء؟ وهل بمكن أن يخلق اللّه شيئاً ذا متصفاً بصفة، ثمّ وبعد يذم خلقه؟ بالإضافة إلى ذلك فإنّ القرآن الكريم يصرّح في سورة التين الآية (4): (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم). بالتأكيد ليس من أن ظاهر الإنسان حسن وباطنه سيء، بل إنّ الخلقة الكلية للإنسان هي في صورة «أحسن تقويم»، وهناك كذلك آيات أُخرى تمدح المقام الرفيع للإنسان، فكيف تتفق هذه الآيات مع الآية التي نحن بصددها؟ أجوبة هذه الأسئلة تتّضح بالالتفات إلى نقطة واحدة، وهي أنّ اللّه خلق القوى والغرائز والصفات في الإنسان كوسائل لتكامل الإنسان وبلوغ سعادته، لكن عندما يستخدمها الإنسان في الطريق المنحرف ويسيء تدبيرها والاستفادة منها فستكون العاقبة هي التعاسة والشرّ والفساد، فمثلاً الحرص هو الذي لا يتيح فرصة للإنسان للتوقف عن السعي والحركة والاكتفاء بما لديه من نعمة وهو العطش المحرق الذي يسيطر على الإنسان، فلو أنّ هذه الصفة وقعت في طريق العلم لوجدنا الإنسان حريصاً على التعلم، أو بعبارة أخرى يتعطش العلم ويعشقه، وبذلك سوف يكون سبباً لكماله، وأمّا إذا أخذت مسيرها في الماديات فإنّها ستكون سبباً للتعاسة والبخل، وبتعبير آخر: إنّ هذه الصفة فرع من فروع حبّ الذات، وحبّ الذات غريزة توصل الإنسان إلى الكمال، ولكن إذا انحرف في مسيره فإنّه سوف يجرّه إلى الحسد والبخل وإلى غير ذلك. وفي هذا الشأن هناك مواهب أُخرى أيضاً بهذا الشكل: إنّ اللّه أودع قدرة عظيمة في قلب الذرة، من المؤكد أنّها نافعة ومفيدة، ولكن إذا ما أسيء استخدام هذه القدرة وصنع من ذلك القنابل الفتاكة ولم يستخدم في توليد الطاقة الكهربائية والوسائل الصناعية الأخرى، فسيكون مدعاة للشرّ والفساد، وبالتعمق فيما ذكرنا يمكن أن الجمع في ما ورد في الإنسان وذلك من خلال الآيات القرآنية المبيّنة لحالات الإنسان.