وعلى مصارع الغابرين المكذبين بالنذر - بعد استعراض مظاهر المشيئة وآثارها في الأنفس والآفاق - يلقي بالإيقاع الأخير قويا عميقا عنيفا . كأنه صيحة الخطر قبيل الطامة الكبرى :
( هذا نذير من النذر الأولى . أزفت الآزفة . ليس لها من دون الله كاشفة ) . .
هذا الرسول الذي تتمارون في رسالته وفي نذارته . هذا نذير من النذر الأولى التي أعقبها ما أعقبها !
{ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى ( 56 ) أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ ( 57 ) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ( 58 ) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ( 59 ) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ( 60 ) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ( 61 ) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ( 62 ) }
هذا نذير من النذر الأولى : إن محمدا صلى الله عليه وسلم بعض من أنذر من المنذرين الأولين ، فهو كالرسل قبله أرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم ، أو هذا القرآن منذر لكم ، من نوع الكتب الأولى التي أنذر بها الأنبياء .
56- { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى } .
هذا الرسول الذي تتمارون في رسالته وتتشككون نذير ضمن المنذرين الأولين الذين حذروا أقوامهم ، من الكفر والتكذيب ، ثم نزل الهلاك بالمكذبين ، فقد غرق قوم نوح ، وأهلك الله عادا وثمود .
أو أن القرآن رسالة السماء ، تنذر المكذّبين ، مثل التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى .
قوله تعالى : " هذا نذير من النذر الأولى " قال ابن جريج ومحمد بن كعب : يريد أن محمدا صلى الله عليه وسلم نذير بالحق الذي أنذر به الأنبياء قبله ، فإن أطعتموه أفلحتم ، وإلا حل بكم ما حل بمكذبي الرسل السالفة . وقال قتادة : يريد القرآن ، وأنه نذير بما أنذرت به الكتب الأولى . وقيل : أي هذا الذي أخبرنا به من أخبار الأمم الماضية الذين هلكوا تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك من النذر أي مثل النذر ، والنذر في قول العرب بمعنى الإنذار كالنكر بمعنى الإنكار ، أي هذا إنذار لكم . وقال أبو مالك : هذا الذي أنذرتكم به من وقائع الأمم الخالية هو في صحف إبراهيم وموسى . وقال السدي أخبرني أبو صالح قال : هذه الحروف التي ذكر الله تعالى من قوله تعالى : " أم لم ينبأ بما في صحف موسى . وإبراهيم " [ النجم : 37 ] إلى قوله : " هذا نذير من النذر الأولى " كل هذه في صحف إبراهيم وموسى .
ولما تم الكلام على هذا المنهاج البديع والنمط الرفيع في حسان البيان للمواعظ والشرع والقصص القديمة والإنذار العظيم التام على وجه معجز من وجوه شتى ، أنتج قوله مرغباً مرهباً خاتماً السورة بما بدأ هنا به من ذكره صلى الله عليه وسلم : { هذا } النبي صلى الله عليه وسلم { نذير } أي محذر بليغ التحذير ، ولما كانت الرسل الماضون عليهم الصلاة والسلام قد تقررت رسالتهم في النفوس وسكنت إليها القلوب ، بحيث أنه لا يسع إنكارها ، فكان قد أخبر عن إنكار من كذبهم لأجل تكذيبهم ، وإنجائهم وإنجاء من صدقهم لأجل نصرتهم ، وكان لا فرق بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم في ذلك إلا أن الرحمة به أبلغ وأغلب ، مرعباً في اتباعه مرهباً من نزاعه ، قال : { من النذر الأولى * } يجب له ما وجب لهم وأنتم كالمنذرين الأولين ، فاحذروا ما حل بالمكذبين منهم وارجوا ما كان للمصدقين .
قوله تعالى : { هذا نذير من النذر الأولى 56 أزفت الأزفة 57 ليس لها من دون الله كاشفة 58 أفمن هذا الحديث تعجبون 59 وتضحكون ولا تبكون 60 وأنتم سامدون61 فاسجدوا لله واعبدوا } .
النذر ، جمع نذير ، وهو من الإنذار أي الإبلاغ ولا يكون إلا في التخويف{[4390]} والمراد بالإشارة { هذا } الرسول صلى الله عليه وسلم فهو منذر من المنذرين أرسله الله للناس ليبلغهم دعوة الحق والتوحيد ، ويحذرهم الشرك ، والنكول عن دينه ، أو الإعراض عن منهجه العظيم . وقيل : المراد بهذا ، القرآن ، فهو إنذار من جنس الإنذارات السابقة الأولى التي أنذر الله بها العباد . وقيل : هذا الذي أخبرتكم به من أخبار الأمم الماضية مما حل بهم من التدمير وسوء العقاب إنما هو تخويف لكم أن ينزل بكم ما نزل بهم .