16 ، 17- بل تؤثرون الحياة الدنيا* والآخرة خير وأبقى .
بل أنتم معشر البشر تؤثرون الدنيا العاجلة ، حيث شاهدتم أموالها ونساءها ، وقصورها ودورها ، وسائر أمورها ، وهي دنيا محدودة الأجل ، فهي دنيا وليست عليا .
والآخرة خير ثوابا وخير مردّا ، وهي دار الجزاء العادل ، في جناتها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فالآخرة أفضل من الدنيا ، لأن نعيمها دائم باق لا يفنى ، ولأن جزاء الآخرة عطاء من الله ، وعطاء الله أفضل وأكثر .
روى الإمام أحمد ، عن أبي موسى الأشعري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من أحب دنياه أضرّ بآخرته ، ومن أحب آخرته أضرّ بدنياه ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى )xxii .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدّنيا" يقول للناس : بل تؤثرون أيها الناس زينة الحياة الدنيا على الآخرة.
"والآخِرَةُ خَيْرٌ" لَكُم "وأبْقَى" يقول : وزينة الآخرة خير لكم أيها الناس وأبقى بقاء ، لأن الحياة الدنيا فانية ، والآخرة باقية ، لا تنفَدُ ولا تفنى ... عن عَرْفَجَة الثقفيّ ، قال : استقرأت ابن مسعود سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَى ، فلما بلغ : بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدّنيا ترك القراءة ، وأقبل على أصحابه ، وقال : آثرنا الدنيا على الآخرة ، فسكت القوم ، فقال : آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها ، وزُوِيت عنا الآخرة ، فاخترنا هذا العاجل ، وتركنا الآجل .
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
والآخرة خير لأهل الطاعة وأبقى على أهل الجنة . ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وتمامه أن كل ما كان خيرا وأبقى فهو آثر ، فيلزم أن تكون الآخرة آثر من الدنيا وهم كانوا يؤثرون الدنيا ، وإنما قلنا : إن الآخرة خير لوجوه؛
( أحدها ) : أن الآخرة مشتملة على السعادة الجسمانية والروحانية ، والدنيا ليست كذلك ، فالآخرة خير من الدنيا.
( وثانيها ) : أن الدنيا لذاتها مخلوطة بالآلام ، والآخرة ليست كذلك ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
خير في نوعها ، وأبقى في أمدها . وفي ظل هذه الحقيقة يبدو إيثار الدنيا على الآخرة حماقة وسوء تقدير . لا يقدم عليهما عاقل بصير . ...
أي والدار الآخرة ، أي الجنة . " خير " أي أفضل . " وأبقى " أي أدوم من الدنيا . وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : [ ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم ، فلينظر بم يرجع ] صحيح . وقد تقدم{[15982]} . وقال مالك بن دينار : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من خزف يبقى ، لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى ، على ذهب يفنى . قال : فكيف والآخرة من ذهب يبقى ، والدنيا من خزف يفنى .
{ و{[72959]}الآخرة } أي-{[72960]} والحال أن الدار التي هي غاية الخلق ومقصود الأمر ، العالية{[72961]} المبرئة عن العبث ، المنزهة{[72962]} عن الخروج عن الحكمة { خير } أي من-{[72963]} الدنيا على تقدير التسليم لأن فيها خيراً لأن نعيمها خالص لا كدر فيه بوجه { وأبقى * } أي منها على تقدير المحال في الدنيا من أن تماديها إلى وقت زوالها تسمى بقاء ، لأن نعيم الآخرة دائم لا انقطاع له أصلاً ، وما كان باقياً-{[72964]} لا يعادل بما يغني بوجه من الوجوه ، فمن علم ذلك - وهو أمر لا يجهل - اشتغل بما يحصل الآخرة وينفي الدنيا بقسميها من الأعيان الحسية والشهوات المعنوية من {[72965]}الرعونات النفسانية{[72966]} والمستلذات الوهمية ، والآية من الاحتباك : ذكر الإيثار والدنو أولاً {[72967]}يدل على{[72968]} الترك والعلو ثانياً ، وذكر الخير والبقاء ثانياً يدل على ضدهما أولاً ، وسر ذلك أنه لا يؤثر الدنيء إلا دنيء فذكره أولاً لأنه أشد في التنفير ، وذكر الخير والبقاء ثانياً لأنه أشد في الترغيب .