( علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى ? ) . .
والشديد القوي ذو المرة [ أي القوة ] ، هو جبريل - عليه السلام - وهو الذي علم صاحبكم ما بلغه إليكم .
وهذا هو الطريق ، وهذه هي الرحلة ، مشهودة بدقائقها : استوى وهو بالأفق الأعلى . حيث رآه محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وكان ذلك في مبدأ الوحي . حين رآه على صورته التي خلقه الله عليها ، يسد الأفق بخلقه الهائل .
شديد القوى : جبريل عليه السلام .
ذو مِرّة : ذو حصافة عقل وقوة عارضة ، من قولهم : أَمْرَرْتُ الحبل ، أي : أحكمت فتله .
فاستوى : فاستقام على صورته التي خلقه الله عليها ، عند حراء في مبدأ النبوة .
وهو بالأفق الأعلى : بالجهة العليا من السماء المقابلة للناظر .
5 ، 6 ، 7- { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى } .
جبريل أمين السماء يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مثل صلصلة الجرس ، وأحيانا يأتيه الوحي مثل دوّى النحل ، وهي حالة غيبية علوية ، يغيب فيها النبي صلى الله علي وسلم عمّن حوله ، ويتحول بكل حواسه وثقله الروحي إلى تلقي الوحي من جبريل ، وجبريل ملاك أمين ، فيفصم جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد وعى ما يقوله من أمر الوحي .
قالت عائشة : ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، وإن جبينه ليتفصَّد عرقا . iv
علَّم محمدا مَلَك شديد القوى هو جبريل عليه السلام ، شديد القوى العلمية والعملية ، وهو ذو قوة وشدّة في الخلق .
ومعنى ذو مرة : ذو حصافة في العقل ، ومتانة في الرأي ، وهو أمين أيّ أمين ، ذو جدارة وهمة بالغة ، في تنفيذ المهام المكلّف بها .
وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم على صورته الحقيقية ، في الأفق الأعلى ، أي في الجهة العليا من السماء ، وهي أفق الشمس ، فسدَّ الأفق عندما جاء بالوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما جاء .
قال الله تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } . ( التكوير : 19-23 )
وقال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } . ( الشعراء : 192-195 )
ثم ذكر المعلم للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو جبريل [ عليه السلام ] ، أفضل الملائكة [ الكرام ] وأقواهم وأكملهم ، فقال : { عَلَّمَهُ [ شَدِيدُ الْقُوَى ] } أي : نزل بالوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام ، { شديد القوى } أي : شديد القوة الظاهرة والباطنة ، قوي على تنفيذ ما أمره الله بتنفيذه ، قوي على إيصال الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومنعه من اختلاس الشياطين له ، أو إدخالهم فيه ما ليس منه ، وهذا من حفظ الله لوحيه ، أن أرسله مع هذا الرسول القوي الأمين .
قوله تعالى : " علمه شديد القوى " يعني جبريل عليه السلام في قول سائر المفسرين ، سوى الحسن فإنه قال : هو الله عز وجل ، ويكون قوله تعالى : " ذو مرة " على قول الحسن تمام الكلام ، ومعناه ذو قوة والقوة من صفات الله تعالى ، وأصله من شدة فتل الحبل ، كأنه استمر به الفتل حتى بلغ إلى غاية يصعب معها الحل . " فاستوى " يعني الله عز وجل ، أي استوى على العرش . روي معناه عن الحسن . وقال الربيع بن أنس والفراء : " فاستوى . وهو بالأفق الأعلى " أي استوى جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام . وهذا على العطف على المضمر المرفوع ب " هو " . وأكثر العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أظهروا كناية المعطوف عليه ، فيقولون : استوى هو وفلان ، وقلما يقولون استوى وفلان ، وأنشد الفراء :
ألم تر أن النَّبْعَ يَصْلُبُ عوده *** ولا يستوي والخِرْوَعُ المُتَقَصِّفُ{[14342]}
أي لا يستوي هو والخروع ، ونظير هذا : " أإذا كنا ترابا وأباؤنا{[14343]} " [ النمل : 67 ] والمعنى أئذا كنا ترابا نحن وآباؤنا . ومعنى الآية : استوى جبريل هو ومحمد عليهما السلام ليلة الإسراء بالأفق الأعلى . وأجاز العطف على الضمير لئلا يتكرر . وأنكر ذلك الزجاج إلا في ضرورة الشعر . وقيل : المعنى فاستوى جبريل بالأفق الأعلى ، وهو أجود . وإذا كان المستوي جبريل فمعنى " ذ ومرة " في وصفه ذو منطق حسن ، قاله ابن عباس . وقال قتادة : خلق طويل حسن . وقيل : معناه ذو صحة جسم وسلامة من الآفات ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم . ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي{[14344]} ) . وقال امرؤ القيس :
كنتُ فيهم أبدا ذا حِيلة *** مُحْكَمَ المِرَّةِ مأمونَ العُقَد
وقد قيل : " ذو مرة " ذو قوة . قال الكلبي : وكان من شدة جبريل عليه السلام : أنه اقتلع مدائن قوم لوط من الأرض السفلى{[14345]} ، فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء ، حتى سمع أهل السماء نبح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها . وكان من شدته أيضا : أنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب من الأرض المقدسة فنفحه بجناحه نفحة ألقاه بأقصى جبل في الهند . وكان من شدته : صيحته بثمود في عددهم وكثرتهم ، فأصبحوا جاثمين خامدين . وكان من شدته : هبوطه من السماء على الأنبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف . وقال قطرب : تقول العرب لكل جزل الرأي حصيف العقل : ذو مرة . قال الشاعر :
قد كنتُ قبل لقاكُمُ ذا مِرَّةٍ *** عندي لكل مخاصِمٍ ميزانُهُ
وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله : أن الله ائتمنه على وحيه إلى جميع رسله . قال الجوهري : والمرة إحدى الطبائع الأربع ، والمرة القوة وشدة العقل أيضا . ورجل مرير أي قوي ذو مرة . قال :
ترى الرجل النحيف فتَزْدَرِيهِ *** وحَشْوُ ثيابه أسدٌ مَرِيرُ{[14346]}
حتى استمرت على شَزْرٍ مَرِيرَتُه *** مَرَّ العزيمة لا رَتًّا{[14347]} ولا ضَرَعَا
وقال مجاهد وقتادة : " ذو مرة " ذو قوة ، ومنه قول خفاف بن ندبة :
إني امرؤ ذو مرة فاسْتَبْقِنِي *** فيما ينوبُ من الخُطُوب صَلِيبُ
فالقوة تكون من صفة الله عز وجل ، ومن صفة المخلوق . " فاستوى " يعني جبريل على ما بينا ، أي ارتفع وعلا إلى مكان في السماء بعد أن علم محمدا صلى الله عليه وسلم ، قاله سعيد بن المسيب وابن جبير . وقيل : " فاستوى " أي قام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها ؛ لأنه كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي إلى الأنبياء ، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه التي جبله الله عليها فأراه نفسه مرتين : مرة في الأرض ومرة في السماء ، فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بحراء ، فطلع له جبريل من المشرق فسد الأرض إلى المغرب ، فخر النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه . فنزل إليه في صورة الآدميين وضمه إلى صدره ، وجعل يمسح الغبار عن وجهه ، فلما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يا جبريل ما ظننت أن الله خلق أحدا على مثل هذه الصورة ) . فقال : يا محمد إنما نشرت جناحين من أجنحتي وإن لي ستمائة جناح سعة كل جناح ما بين المشرق والمغرب . فقال : ( إن هذا لعظيم ) فقال : وما أنا في جنب ما خلقه الله إلا يسيرا ، ولقد خلق الله إسرافيل له ستمائة جناح ، كل جناح منها العصفور الصغير ، دليله قوله تعالى : " ولقد رآه بالأفق المبين{[14348]} " [ التكوير : 23 ] وأما في السماء فعند سدرة المنتهى ، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا محمدا صلى الله عليه وسلم . وقول ثالث أن معنى " فاستوى " أي استوى القرآن في صدره . وفيه على هذا وجهان : أحدهما : في صدر جبريل حين نزل به عليه . الثاني : في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه . وقول رابع أن معنى " فاستوى " فاعتدل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم . وفيه على هذا وجهان : أحدهما : فاعتدل في قوته . الثاني : في رسالته . ذكرهما الماوردي .
قلت : وعلى الأول يكون تمام الكلام " ذو مرة " ، وعلى الثاني " شديد القوى " . وقول خامس أن معناه فارتفع . وفيه على هذا وجهان : أحدهما : أنه جبريل عليه السلام ارتفع إلى مكانه على ما ذكرنا أنفا . الثاني : أنه النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع بالمعراج . وقول سادس " فاستوى " يعني الله عز وجل ، أي استوى على العرش على قول الحسن . وقد مضى القول فيه في " الأعراف{[14349]} " .
ولما كان الوحي ظاهراً فيما بواسطة الملك ، تشوف{[61672]} السامع إلى بيان ذلك فقال مبيناً له بأوصافه لأن ذلك أضخم في حقه وأعلى لمقداره : { علمه } أي صاحبكم الوحي الذي أتاكم به { شديد القوى * } أفلا تعجبون من هذه البحار الزاخرة التي فأقكم بها وهو أمي فإن معلمه بهذه الصفة التي هو بها بحيث ينفذ كل ما أمره الله به