وهي حال لا يتأتى معها كذب في الرؤية ، ولا تحتمل مماراة أو مجادلة : ( ما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى ? ) . . ورؤية الفؤاد أصدق وأثبت ، لأنها تنفي خداع النظر . فلقد رأى فتثبت فاستيقن فؤاده أنه الملك ، حامل الوحي ، رسول ربه إليه ، ليعلمه ويكلفه تبليغ ما يعلم . وانتهى المراء والجدال ، فما عاد لهما مكان بعد تثبت القلب ويقين الفؤاد .
أفتمارونه : من المراء ، وهو الملاحاة والمجادلة ، أي أفتُجادلونه .
12-{ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } .
أفتجادلونه وتكذِّبونه وتتهمونه مرة بالسحر ومرة بالشعر ومرة بالكهانة ، ومرة بكتابة أساطير الأولين ، ومرة بالتَّخيُّل والجنون .
وهو قد رأى جبريل واقترب منه ، وتيقن أنه جبريل حامل الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله ، فما كان ينبغي لكم تكذيبه ولا مجادلته ، إنه نبي الله حقا ، أوحى إليه مَلَك حقيقي ، وأنزل الله عليه الوحي حقا .
قال تعلى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ . } ( الشعراء : 193-196 )
{ أفتمارونه على ما يرى } أتكذبونه فتجادلونه فيما يراه من الصور التي يأتي بها عليه جبريل عليه السلام بعد ما رآه قبل وحققه ؛ بحيث لا يشتبه عليه بأي صورة أتى . أو فيها رآه من صورة جبريل عليه السلام على خلقته الأصلية . يقال : ما رآه يماريه مماراة ومراء ، جادله . مشتق من مرى الناقة يمريها ، إذا مسح ضرعها ليخرج لبنها وتدبر به . فشبه به الجدال ؛ لأن كلا من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه ، أي يسعى لاستخراجه ليلزمه الحجة . وعدي الفعل ب " على " لتضمنه معنى المغالبة .
{ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } أي : اتفق فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم ورؤيته على الوحي الذي أوحاه الله إليه ، وتواطأ عليه سمعه وقلبه وبصره ، وهذا دليل على كمال الوحي الذي أوحاه الله إليه ، وأنه تلقاه منه تلقيا لا شك فيه ولا شبهة ولا ريب ، فلم يكذب فؤاده ما رأى بصره ، ولم يشك بذلك . ويحتمل أن المراد بذلك ما رأى صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به ، من آيات الله العظيمة ، وأنه تيقنه حقا بقلبه ورؤيته ، هذا [ هو ] الصحيح في تأويل الآية الكريمة ، وقيل : إن المراد بذلك رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء ، وتكليمه إياه ، وهذا اختيار كثير من العلماء رحمهم الله ، فأثبتوا بهذا رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا ، ولكن الصحيح القول الأول ، وأن المراد به جبريل عليه السلام ، كما يدل عليه السياق ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته الأصلية [ التي هو عليها ] مرتين ، مرة في الأفق الأعلى ، تحت السماء الدنيا كما تقدم ، والمرة الثانية فوق السماء السابعة ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال :{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى }
قوله تعالى :{ أفتمارونه على ما يرى } قرأ حمزة والكسائي ويعقوب : ( أفتمرونه ) بفتح التاء بلا ألف ، أي : أفتجحدونه ، تقول العرب : مريت الرجل حقه إذا جحدته ، وقرأ الآخرون : ( أفتمارونه ) بالألف وضم التاء ، على معنى أفتجادلونه على ما يرى ، وذلك أنهم جادلوه حين أسري به ، فقالوا : صف لنا بيت المقدس ، وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به ، والمعنى : أفتجادلونه جدالاً ترمون به دفعه عما رآه وعلمه .
قوله تعالى : " أفتمارونه على ما يرى " قرأ حمزة والكسائي " أفتمرونه " بفتح التاء من غير ألف على معنى أفتجحدونه . واختاره أبو عبيد ؛ لأنه قال : لم يماروه وإنما جحدوه . يقال : مراه حقه أي جحده ومريته أنا ، قال الشاعر :
لئن هجرت{[14362]} أخا صدقٍ ومكرُمَةٍ *** لقد مَرَيْتَ أخاً ما كان يَمْرِيكَا
أي جحدته . وقال المبرد : يقال مراه عن حقه وعلى حقه إذا منعه منه ودفعه عنه . قال : ومثل على بمعنى عن قول بني كعب بن ربيعة : رضي الله عليك ، أي رضي عنك . وقرأ الأعرج ومجاهد " أفتمرونه " بضم التاء من غير ألف من أمريت ، أي تريبونه وتشككونه . الباقون " أفتمارونه " بألف ، أي أتجادلونه وتدافعونه في أنه رأى الله ، والمعنيان متداخلان ؛ لأن مجادلتهم جحود . وقيل : إن الجحود كان دائما منهم وهذا جدال جديد ، قالوا : صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا التي في طريق الشام . على ما تقدم{[14363]} .
ولما تقرر ذلك غاية التقرر ، وكان موضع الإنكار عليهم ، قال مسبباً عن ذلك : { أفتمارونه } أي تستخرجون منه بجدالكم له فيما أخبركم به شكاً فيه ولا شك فيه ، وعبر بالمفاعلة في قراءة الجماعة عن حمزة والكسائي ويعقوب إشارة إلى اجتهادهم في تشكيكه ، من مري الشيء : استخرجه ، ومري الناقة : مسح ضرعها ، فأمرى : در لبنها ، والمرية بالكسر والضم : الشك والجدل { على ما يرى * } على صفة مطابقة القلب والبصر ، وذلك مما لم تجر{[61693]} العادة بدخول الشك فيه ولا قبوله للجدال ، وزاد الأمر وضوحاً بتصوير الحال الماضية بالتعبير بالمضارع إشارة إلى أنه كما أنه لم يهم لم يلبس الأمر عليه ، بل كأنه الآن ينظر .