ناديه : مجتمع القوم ، والمراد : من به .
فليدع أهل ناديه ، والمراد أنصاره وأعوانه وعشيرته ، والخطاب هنا للتهديد والوعيد ، فقد صح أن أبا جهل عندما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند الكعبة ، نهره النبي صلى الله عليه وسلم وزجره وأغلظ له القول . فقال أبو جهل : أتهددني يا محمد وأنا أكثر هذا الوادي ناديا ؟ أي : أهلا وعشيرة وأنصارا ، فأنزل الله تعالى : فليدع ناديه .
قوله تعالى : " فليدع ناديه " أي أهل مجلسه وعشيرته ، فليستنصر بهم . " سندع الزبانية " أي الملائكة الغلاط الشداد - عن ابن عباس وغيره - واحدهم زبني . قاله الكسائي . وقال الأخفش : زابن . أبو عبيدة : زبنية . وقيل : زباني . وقيل : هو اسم للجمع ، كالأبابيل والعباديد . وقال قتادة : هم الشرط في كلام العرب . وهو مأخوذ من الزبن وهو الدفع ، ومنه المزابنة{[16221]} في البيع . وقيل : إنما سموا الزبانية لأنهم يعملون بأرجلهم ، كما يعملون بأيديهم ، حكاه أبو الليث السمرقندي - رحمه اللّه - قال : وروي في الخبر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قرأ هذه السورة ، وبلغ إلى قوله تعالى : " لنسفعا بالناصية " قال أبو جهل : أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك . فقال اللّه تعالى : " فليدع ناديه ، سندع الزبانية " . فلما سمع ذكر الزبانية رجع فزعا ، فقيل له : خشيت منه . قال : لا ، ولكن رأيت عنده فارسا يهددني بالزبانية . فما أدري ما الزبانية ، ومال إلي الفارس ، فخشيت منه أن يأكلني . وفي الأخبار أن الزبانية رؤوسهم في السماء وأرجلهم في الأرض ، فهم يدفعون الكفار في جهنم ، وقيل : إنهم أعظم الملائكة خلقا ، وأشدهم بطشا . والعرب تطلق هذا الاسم على من اشتد بطشه . قال الشاعر :
مطاعيمُ في القُصْوَى مطاعينُ في الوَغَى*** زبانيةٌ غُلْب عِطَامٌ حُلُومُهَا{[16222]}
وعن عكرمة عن ابن عباس : " سندع الزبانية " قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه . فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : ( لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ) . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : مر أبو جهل على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يصلي عند المقام ، فقال : ألم أنهك عن هذا يا محمد فأغلظ له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال أبو جهل : بأي شيء تهددني يا محمد ، واللّه إني لأكثر أهل الوادي هذا ناديا ، فأنزل اللّه عز وجل : " فليدع ناديه . سندع الزبانية " . قال ابن عباس : واللّه لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب من ساعته . أخرجه الترمذي بمعناه ، وقال : حسن غريب صحيح . والنادي في كلام العرب : المجلس الذي ينتدي فيه القوم ، أي يجتمعون ، والمراد أهل النادي ، كما قال جرير :
لهم مجلسٌ صُهْبُ السِّبَالِ أذِلَّةٌ{[16223]}
وفيهمْ مقاماتٌ حسان وُجُوههم{[16224]}
واسْتَبَّ بعدك يا كُلَيْبُ المجلِسُ{[16225]}
وقد ناديت الرجل أناديه إذا جالسته . قال زهير :
وجارُ البيتِ والرجلُ المنادي *** أمامَ الحي عقدُهُمَا سَوَاءُ
ولما كان هذا هو غاية الإهانة ، وكان الكفار إنما يقصدون بأعراضهم الشماخة والأنفة والعز عن أن يكونوا أتباعاً أذناباً ، وإنما عزهم بقومهم ، وأقرب من يعتز به الإنسان أهل ناديه ، وهم القوم الذين يجتمعون نهاراً ليحدث بعضهم بعضاً ، ويستروح بعضهم إلى بعضهم لما عندهم من التصافي ؛ لأنهم لا يتركون أشغالهم نهاراً ويجتمعون لذلك إلا عن ذلك ، قال تعالى مسبباً عن أخذه على هذا الوجه المزري : { فليدع } أي دعاء استغاثة { ناديه * } أي القوم الذين كانوا يجتمعون معه نهاراً يتحدثون في مكان ينادي فيه بعضهم بعضاً من أنصاره وعشيرته ليخلصوه مما هو فيه ، والذي نزلت فيه هو أبو جهل ، قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً .