فأما هود النبي فيتلقى هذا كله في أدب النبي ، وفي تجرده من كل ادعاء ، وفي الوقوف عند حده لا يتعداه : ( قال : إنما العلم عند الله . وأبلغكم ما أرسلت به . ولكني أراكم قوما تجهلون ) . .
إنما أنذركم بالعذاب كما كلفت أن أنذركم . ولست أعلم متى يحين موعده ، ولا كيف يكون شكله . فعلم ذلك عند الله . وإنما أنا مبلغ عن الله . لا أدعي علما ولا قدرة مع الله . . ( ولكني أراكم قوما تجهلون )وتحمقون . وأية حماقة وأي جهل أشد من استقبال النذير الناصح والأخ القريب بمثل هذا التحدي والتكذيب ?
ويجمل السياق هنا ما كان بين هود وقومه من جدل طويل ، ليمضي إلى النهاية المقصودة أصلا في هذا المقام ؛ ردا على التحدي والاستعجال .
إنما العلم من عند الله : العلم بوقت نزول العذاب عند الله .
تجهلون : تتصفون بالجهل وعدم الإدراك ، في سؤالكم العذاب ممن بعث إليكم منذرا .
23- { قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون } .
أنا رسول من عند الله ، وظيفتي تبليغ الرسالة ، والبشارة بالجنة للطائعين ، وبالعذاب للمكذبين ، وقد ينزل عذاب المكذبين في الدنيا ، لكن ذلك من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ، فهو الحكيم الذي يعلم متى ينزل العذاب ، وما هو الوقت المناسب لذلك .
حيث تقابلون رسالة رسول يدعوكم إلى الخير والإيمان ، ويحذركم عقوبة الكفر والجحود ، تقابلون ذلك باستعجال العذاب ، والاستخفاف بالرسول ، والتحدي لقدرة الله ، وهو سبحانه على كل شيء قدير .
ولما تضمن قولهم هذا نسبة داعيهم عليه الصلاة والسلام إلى ما لا دلالة لكلامه عليه بوجه ، وهو ادعاء{[58934]} العلم بعذابهم والقدرة عليه وتكذيبه في كل منهما اللازم منه أمنهم اللازم منه-{[58935]} ادعاؤهم العلم بأنهم لا يعذبون ، وكانوا كاذبين في جميع ذلك كان-{[58936]} كأنه قيل : بم أجابهم ؟ فقيل : { قال } مصدقاً لهم في سلب{[58937]} علمه بذلك وقدرته عليه ، مكذباً لهم في نسبتهم إليه ادعاء شيء منهما وإلى أنفسهم بأنه لا يقع : { إنما العلم } أي{[58938]} المحيط بكل شيء عذابكم وغيره { عند الله } أي المحيط بجميع صفات الكمال ، فهو ينزل علم ما توعدون على{[58939]} من يشاء إن شاء{[58940]} ولا علم لي الآن ولا لكم بشيء من ذلك ولا قدرة{[58941]} .
ولما كان العلم المحيط يستلزم القدرة ، فكان التقدير : فليست القدرة على الإتيان بعذابكم إلا له سبحانه وتعالى لا لي ولا لغيري ، وليس عليّ إلا البلاغ {[58942]}كما أوحى إليّ ربي بقوله سبحانه
{ إن عليك إلا البلاغ }{[58943]}[ الشورى : 48 ] وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم من الوعظ بأن أعمالكم أعمال من قد أعرض عن سيده{[58944]} وعرض نفسه {[58945]}للهلاك والعذاب{[58946]} بإشراكه بالمحسن المطلق من لا يكافئه بوجه فهو{[58947]} بحيث يخشى عليه الأخذ ، عطف عليه قوله : { وأبلغكم } أي أيضاً في الحال والاستقبال { ما أرسلت } أي ممن لا مرسل في الحقيقة غيره ، فإنه يقدر على نصر رسوله{[58948]} { به } أي من التوحيد وغيره ، سواء كان وعداً أو وعيداً أو غيرهما لو لم يذكر الغاية لأن ما أرسل به صالح لهم ولغيرهم .
ولما كان معنى الإخبار بالإبلاغ أنه ليس عليّ إلا ذلك ، وكان معنى قصر العلم المطلق على الله تصديقهم في نفي علمه عليه الصلاة والسلام بذلك ، حسن قوله مستدركاً{[58949]} علمه بجهلهم : { ولكني أراكم } أي أعلمكم علماً هو كالرؤية{[58950]} { قوماً } غلاظاً شداداً عاسين { تجهلون * } أي بكم-{[58951]} مع ذلك صفة الجهل ، وهو الغلظة في غير موضعها مع قلة العلم ، تجددون ذلك على سبيل الاستمرار بسبب-{[58952]} أنكم تفعلون بإشراككم بالمحسن المطلق وهو-{[58953]} الملك الأعظم من لا إحسان {[58954]}له بوجه{[58955]} أفعال من يستحق العذاب ثم لا تجوزون{[58956]} وقوعه وتكذبون من ينبهكم{[58957]} على أن ذلك أمر يحق أن يحترز منه ، وتنسبونه إلى غير ما أرسل له{[58958]} من الإنذار من ادعاء القدرة على العذاب ونحوه .