ذكر الواحدي في سبب نزول قوله تعالى : أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم .
قال : كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ، يستمعون كلامه ، ولا ينتفعون به ، بل يكذّبون به ويستهزئون ، ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة ، لندخلنّها قبلهم ، وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
38 ، 39- أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم* كلاّ إنّا خلقناهم مما يعلمون .
تجاوز الكفار حدودهم حين قالوا : لئن دخل أتباع محمد الجنة ، وهم فقراء بسطاء ، لندخلنّها قبلهم ، فنحن أفضل منهم في الدنيا ، وسنكون أفضل منهم في الآخرة .
لقد خلقنا الناس جميعا من منيّ يمنى ، أي أن الله سوّى بين الناس جميعا في الخلق ، وترك لكل إنسان العقل والإرادة ليسك طريقة في الدنيا عن قصد وإرادة واختيار : فأما من طغى* وآثر الحياة الدنيا* فإن الجحيم هي المأوى* وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى* فإن الجنة هي المأوى . ( النازعات : 37- 41 ) .
وفي الحديث الشريف : ( الخلق كلهم عيال الله ، الله ربّهم وهم عباده ، يتفاضلون عنده بالتقوى ، ويدركون ثوابه بالعمل الصالح ) .
وقال تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } ( الحجرات : 13 ) .
أيطمع هؤلاء الكفار –وحالتهم واضحة من الكفر والتكذيب لرسولي- أن يدخلوا الجنة ؟ كلا ، إن أعمالهم تقودهم إلى جهنم ، لقد خلقناهم مما يعلمون ، من نطفة مزرة ، ليعملوا ويطيعوا ، فتكبّروا وأعرضوا ، فصاروا أهلا للنار لا للجنة .
أخرج أحمد ، وابن ماجة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول الله تعالى : ابن آدم ، أنّى تعجزني وقد خلقتك من نطفة مزرة ، حتى إذا سوّيتك وعدّلتك مشيت بين بردين ، وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت ، حتى إذا بلغت التراقي أتى أوان الصدقة )xii .
ولما كان هذا الإسراع على هذا الوجه لا ينبغي أن يكون إلا{[68465]} فيما يتحقق أنه مسعد ، ومع تحقق أنه مسعد لا ينبغي {[68466]}أن يكون إلا{[68467]} فيما تحصل به السعادة الأبدية ؛ قال منبهاً على ذلك منكراً أن يكون لهم ما كان ينبغي ألا يكون فعلهم ذلك إلا له{[68468]} مع أنه{[68469]} كان من جملة استهزائهم إذا تحلقوا لسماع ما يقرأ أن يقولوا : إن كان {[68470]}ما يقول حقاً{[68471]} من أمر البعث{[68472]} والجنة{[68473]} لنكونن أسعد بها منهم كما أنا أسعد منهم{[68474]} في هذه الدار كما قال تعالى حاكياً{[68475]} عنهم في قوله :{ ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى }[ فصلت : 50 ] وذلك أنه كثيراً ما يأتي الغلط من أن{[68476]} الإنسان يكون في خير في الدنيا فيظن أن ذلك مانع له من النار لأنه{[68477]} خير في نفس الأمر ، أو يظن أن إمهاله وهو على الباطل رضي به ، ولا يدري أنه{[68478]} لا يضجر ويقلق ويعجل إلا من يخاف الفوت ، أو يكون شيء بغير إرادته : { أيطمع } أي بهذا الإتيان ، وعبر بالطمع إشارة إلى أنهم بلغوا الغاية في السفه لكونهم طلبوا{[68479]} أعز الأشياء من غير سبب تعاطوه له .
ولما كان إتيانهم على هيئة التفرق من غير انتظار جماعة لجماعة{[68480]} قال : { كل امرىء منهم } أي على انفراده{[68481]} ، ولما كان المحبوب دخول الجنة {[68482]}لا كونه{[68483]} من مدخل معين ، قال بانياً للمفعول : { أن يدخل } أي بالإهطاع وهو كافر من غير إيمان يزكيه كما يدخل المسلم فيستوي المسيء والمحسن { جنة نعيم * } أي لا شيء فيها غير النعيم في كل ما فيها على تقدير ضبطه .