وهو وضع يقابل وضع المعذب الهالك المأخوذ بعمله السيء ، الذي يؤتى كتابه وهو كاره :
( وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا . ويصلى سعيرا ) . .
والذي ألفناه في تعبيرات القرآن من قبل هو كتاب اليمين وكتاب الشمال . فهذه صورة جديدة : صورة إعطاء الكتاب من وراء الظهر . وليس يمتنع أن يكون الذي يعطى كتابه بشماله يعطاه كذلك من وراء ظهره . فهي هيئة الكاره المكره الخزيان من المواجهة !
ونحن لا ندري حقيقة الكتاب ولا كيفية إيتائه باليمين أو بالشمال أو من وراء الظهر . إنما تخلص لنا حقيقة النجاة من وراء التعبير الأول ؛ وحقيقة الهلاك من وراء التعبير الثاني . وهما الحقيقتان المقصود أن نستيقنهما . وما وراء ذلك من الأشكال إنما يحيي المشهد ويعمق أثره في الحس ، والله أعلم بحقيقة ما يكون كيف تكون !
فهذا التعيس الذي قضى حياته في الأرض كدحا ، وقطع طريقه إلى ربه كدحا - ولكن في المعصية والإثم والضلال - يعرف نهايته ، ويواجه مصيره ، ويدرك أنه العناء الطويل بلا توقف في هذه المرة ولا انتهاء .
وراء ظهره : بشماله من وراء ظهره ، وهو الكافر .
يدعو ثبورا : ينادي ويقول : يا ثبوراه ، والثبور : الهلاك .
يصلى سعيرا : يدخلها ويقاسي حرّها .
10 ، 11 ، 12- وأما من أوتي كتابه وراء ظهره* فسوف يدعوا ثبورا* ويصلى سعيرا .
أما الكافر المكذب وهو من أخذ كتابه بشماله من وراء ظهره ، حيث تغلّ يمينه إلى عنقه ، وهو موقف الهالكين .
والثبور : الهلاك ، فيقول : يا ثبوراه ، أي : يا هلاك أقبل ، ويا موت احضر ، لتنقذني مما أنا فيه ، لذلك قيل : أصعب من الموت تمنّي الموت .
فليسوا ميتين فيستريحوا *** وكلهم بحرّ النار صال
قال تعالى : ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون . ( الزخرف : 77 ) .
فهذا الشقي الذي أطاع هواه ، وآثر الشهوات ، وسار وراء الملذات ، ولم يستمع لداعي العقل ، ولم يقدم شيئا لآخرته ، حين يرى موقف الحساب والجزاء ، وأعماله القبيحة قد أحصيت ، يتمنى الموت والفرار من مواقف العذاب ، ولن يجاب إلى طلبه .
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
وإنما هو الشقاء الذي ليس بعده شقاء ، والتعاسة التي ليست بعدها تعاسة .
ويدخل جهنم يصطلى بنارها ، ويقاسى حرّها وسعيرها ، ويتعذب بعذابها أبد الآبدين ، ودهر الداهرين ، وما كان أيسر عليه ألا يطيع هواه ، وأن يؤمن بالله ، ولا يشرك به أحدا .
وفي ذلك يقول الله تعالى : وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه* ولم أدر ما حسابيه* يا ليتها كانت القاضية* ما أغنى عنّي ماليه* هلك عني سلطانيه* خذوه فغلّوه* ثم الجحيم صلّوه . ( الحاقة : 25-31 ) .
من أُوتي كتابه وراء ظهره : صورةٌ عجيبة من الاحتقار والازدراء .
والفريق الثاني فريق العصاة الجاحدين ، وهؤلاء يحاسبون حساباً عسيرا ويَلْقَون من العذاب ما لا يتصوره الإنسان . . .
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ } ،
هذه صورةٌ عجيبة جديدة ، تأتي لأول مرة في القرآن الكريم ، وهي إعطاء الكتاب للمجرمِ من وراءِ ظهره ، وما هي إلا نوعٌ من الاحتقار وازدراء به .
قوله تعالى : " وأما من أوتي كتابه وراء ظهره " نزلت في الأسود بن عبد الأسد أخي أبي سلمة قاله ابن عباس . ثم هي عامة في كل مؤمن وكافر . قال ابن عباس : يمد يده اليمنى ليأخذ كتابه فيجذبه ملك ، فيخلع يمينه ، فيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره . وقال قتادة ومقاتل : يفك ألواح صدره وعظامه ثم تدخل يده وتخرج من ظهره ، فيأخذ كتابه كذلك .
{ وأما من أوتي كتابه وراء ظهره } يعني : الكافر وروي : أن هاتين الآيتين نزلتا في أبي سلمة بن عبد الأسد وكان من فضلاء المؤمنين وفي أخيه أسود وكان من عتاة الكافرين ولفظها أعم من ذلك فإن قيل : كيف قال في الكافر هنا أن يؤتى كتابه وراء ظهره وقال في الحاقة بشماله ؟ فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن يديه تكونان مغلولتين إلى عنقه وتجعل شماله وراء ظهره فيأخذ بها كتابه وقيل : تدخل يده اليسرى في صدره وتخرج من ظهره فيأخذ بها كتابه .
{ وأما من أوتي } أي بغاية السهولة وإن أبى هو ذلك { كتابه } أي صحيفة حسابه{[72376]} { وراء ظهره * } أي في شماله إيتاء مستغرقاً لجميع جهة الوراء التي هي علم-{[72377]} السوء لأنه كان يعمل ما لم يأذن به الله ، فكأنه عمل من ورائه مما يظن أنه يخفى عليه سبحانه ، فكان حقيقاً بأن تغل يمينه إلى عنقه ، وتكون شماله إلى-{[72378]} وراء ظهره ، ويوضع كتابه فيها ، وهذا احتباك : ذكر اليمين أولاً يدل على الشمال ثانياً ، وذكر الوراء ثانياً-{[72379]} يدل على الأمام أولاً ، وسر ذلك أنه ذكر دليل المودة والرفق بالمصافحة ونحوها في السعيد ، ودليل الغدر والاغتيال في الشقي