ثم عاد بالخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] منوها بوظيفته ، مبينا للغاية منها ، موجها المؤمنين إلى واجبهم مع ربهم بعد تبليغهم رسالته ، مع ردهم في بيعتهم إلى الله مباشرة ، وعقد العقدة معه جل جلاله ، وذلك حين يبايعون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ويتعاقدون معه . وفي ذلك تشريف لبيعة الرسول وتكريم واضح لهذا التعاقد :
( إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، لتؤمنوا بالله ورسوله ، وتعزروه وتوقروه ، وتسبحوه بكرة وأصيلا . إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ، يد الله فوق أيديهم ، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) . .
فالرسول صلى الله عليه وسلم شاهد على هذه البشرية التي أرسل إليها ، يشهد أنه بلغها ما أمر به ، وأنها استقبلته بما استقبلته ، وأنه كان منها المؤمنون ، ومنها الكافرون ، ومنها المنافقون . وكان منها المصلحون ومنها المفسدون . فيؤدي الشهادة كما أدى الرسالة . وهو مبشر بالخير والمغفرة والرضى وحسن الجزاء للمؤمنين الطائعين ، ونذير بسوء المنقلب والغضب واللعنة والعقاب للكافرين والمنافقين والعصاة والمفسدين . . هذه وظيفة الرسول .
8- { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } .
هذه شهادة من الله العلي الكبير لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، يذكر فيها سبحانه أنه اختص نبيه صلى الله عليه وسلم بما يأتي :
( أ ) أرسله الله رسولا ، وجعله خاتم الرسل ، وقال له : { إنا أرسلناك . . . }
أي : نحن الذين اصطفيناك واخترناك ، وأرسلناك رسولا .
( ب ) { شاهدا } . على أمتك بالإجابة ، وعلى أعدائك بالتكذيب ، وعلى الرسل السابقين بأنهم بلغوا رسالات ربهم ، بدليل القرآن الذي قص قصصهم ، وأحيا ذكراهم ، وبارك كفاحهم ، وسجل نصر الله لهم ، وإهلاك أعدائهم .
( ج ) { ومبشرا } . للمؤمنين والمؤمنات ، وكل من استجاب لرسالة الإسلام بالجنة .
{ 8-9 } { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا }
أي : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ } أيها الرسول الكريم { شَاهِدًا } لأمتك بما فعلوه من خير وشر ، وشاهدا على المقالات والمسائل ، حقها وباطلها ، وشاهدا لله تعالى بالوحدانية والانفراد بالكمال من كل وجه ، { وَمُبَشِّرًا } من أطاعك وأطاع الله بالثواب الدنيوي والديني والأخروي ، ومنذرا من عصى الله بالعقاب العاجل والآجل ، ومن تمام البشارة والنذارة ، بيان الأعمال والأخلاق التي يبشر بها وينذر ، فهو المبين للخير والشر ، والسعادة والشقاوة ، والحق من الباطل .
قوله تعالى : " إنا أرسلناك شاهدا " قال قتادة : على أمتك بالبلاغ . وقيل : شاهدا عليهم بأعمالهم من طاعة أو معصية . وقيل : مبينا لهم ما أرسلناك به إليهم . وقيل : شاهدا عليهم يوم القيامة . فهو شاهد أفعالهم اليوم ، والشهيد عليهم يوم القيامة . وقد مضى في " النساء " عن سعيد بن جبير{[13991]} هذا المعنى مبينا . " ومبشرا " لمن أطاعه بالجنة . " ونذيرا " من النار لمن عصى ، قاله قتادة وغيره . وقد مضى في " البقرة " اشتقاق البشارة والنذارة ومعناهما{[13992]} . وانتصب " شاهدا ومبشرا ونذيرا " على الحال المقدرة . حكى سيبويه : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، فالمعنى : إنا أرسلناك مقدرين بشهادتك يوم القيامة . وعلى هذا تقول : رأيت عمرا قائما غدا .
ولما تبين أنه ليس لغيره مدخل في إيجاد النصر ، وكانت السورة من أولها{[60175]} حضرة مخاطبة وإقبال فلم يدع أمر{[60176]} إلى نداء بياء-{[60177]} ولا غيرها . وكان كأنه قيل : فما فائدة الرسالة إلى الناس ؟ أجيب-{[60178]} بقوله تقريراً لما ختم به من صفتي{[60179]} العزة والحكمة . { إنا } بما لنا من العزة والحكمة { أرسلناك } أي{[60180]} بما لنا من العظمة التي هي معنى العزة والحكمة إلى الخلق كافة { شاهداً } على أفعالهم من كفر وإيمان وطاعة وعصيان ، من كان بحضرتك فبنفسك{[60181]} ومن كان بعد موتك أو غائباً عنك فبكتابك ، مع ما أيدناك به من الحفظة من الملائكة .
ولما كانت البشارة محبوبة إلى النفوس رغبهم فيما عنده من الخيرات وحببهم فيه بصوغ{[60182]} اسم الفاعل منها مبالغة فيه فقال تعالى : { ومبشراً } أي لمن أطاع بأنواع البشائر . ولما{[60183]} كانت لنذارة كريهة جداً ، لا يقدم على-{[60184]} إبلاغها إلا-{[60185]} من كمل{[60186]} عرفانه بما فيها من المنافع الموجبة لتجشم مرارة الإقدام على الصدع بها ، أتى بصيغة المبالغة فقال تعالى : { ونذيراً * } .
قوله تعالى : { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا 8 لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقّروه وتسبحوه بكرة وأصيلا 9 إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما } .
ذلك إخبار من الله عن رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم إذ أرسله الله للعالمين ليدعوهم إلى عقيدة التوحيد وإفراد الله بالإلهية والربوبية وليرشدهم إلى صراط الله المستقيم . إلى دين الإسلام الكامل العظيم . لا جرم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خير الأنام وهادي البشرية إلى النجاة والأمان ، ومستنقذهم من الباطل والتعثر والتخبط في ديجور الظلام . وكفى به صلى الله عليه وسلم أن يشهد له ربه بمثل هذه الحقيقة ، وهو قوله : { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } هذه الأسماء الثلاثة ، شاهدا ومبشرا ونذيرا ، منصوبات على الحال{[4254]} .
يعني : أرسل الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم شاهدا على الأمة يوم القيامة بما فعلته في الدنيا . وقيل : يشهد للعالمين أنه لا إله إلا الله { ومبشرا } أي يبشر المؤمنين المطيعين الذين أخلصوا دينهم لله ، بالجنة والرضوان { نذيرا } يحذر العصاة والناكبين عن صراط الله ، العذاب وسوء المصير .